fbpx
مركز رواق للأبحاث والرؤى والدراسات

النشاط النووي الإيراني بين المصلحة والصمت الأمريكي

52

النشاط النووي الإيراني بين المصلحة والصمت الأمريكي

لا يكاد ينفك يوم إلا ونسمع فيه صراخ إعلامي ينذر باشتباكات محتملة بين الولايات المتحدة الأمريكية والدولة الإيرانية، وكل هذا تحت مسمَّى: الاتفاق النووي؛ إلا أن الحقيقة تخبرنا بعكس ذلك تمامًا، وأن هناك اتفاقًا ثنائيًّا على الملف النووي الإيراني، وأن ما نشاهده على شاشات الإعلام المختلفة هو أقرب إلى التمثيل السياسي، والوضع الحقيقي للأزمة المزعومة هو تقارب تكتيكي حقيقي لتجنب خوض حرب مباشرة بينهما.

وفي قت سابق قد أعلن بلينكن أن الولايات المتحدة لا ترغب في الحرب مع إيران(1)، أعلن المتحدث باسم الخارجية الإيرانية أيضًا أن بلاده لا تريد التصعيد وأنها ليس لديها “وكلاء” في المنطقة(2)، وهذه الرسائل القصيرة التي تظهر بين السطور في الخطابات بين الساسة والمسئولين، هي الحقيقة التي يتبعها الطرفان، ولكن يبقى السؤال، وهو: لماذا يتخوف الطرفان من المواجهة الحقيقية لو كان هناك مشكلة وخلاف حقيقي؟

إيران تخرج من دائرة الضغط للدول الغربية:

في الحقيقة لا تملك الولايات المتحدة وحلفاؤها الكثير من السبل المتاحة لكبح أنشطة إيران النووية، فقد توارت منذ مدة طويلة احتمالات نجاح المحادثات في إحراز تقدم، كما يحمل تشديد الإجراءات بحق إيران نفي طياته خطر تأجيج التوتر في منطقة مشتعلة بالفعل بسبب حرب غزة والتي وقعت في 7 أكتوبر 2023، ووفقًا لواحد من تقريرين سريين للوكالة الدولية للطاقة الذرية، نشرته وكالة رويترز: خصبت إيران الآن كميات من اليورانيوم بدرجة نقاء تصل إلى 60%، وهو مستوى يقترب من درجة نقاء لازمة لتصنيع أسلحة نووية، وتقول القوى الغربية: إنه ليس له استخدام مدني، بما يكفي لتصنيع 3 قنابل نووية.

وجاء في التقرير: إن المخزون مستمر في الزيادة؛ رغم أن إيران تنفي باستمرار رغبتها في امتلاك أسلحة نووية، وبعد فشل الولايات المتحدة في إحياء الاتفاق النووي بين إيران والقوى العالمية الذي انسحب منه الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب في عام 2018، لا مجال الآن أمام الرئيس جو بايدن حتى لدراسة الوصول إلى “تفاهم” غير رسمي للحد من أنشطة إيران النووية في ظل احتدام الصراع وتصاعد التوتر في المنطقة(3).

إيران لا تبالي وبوادر دولية لتوسيع نشاط تخصيب اليورانيوم:

أبدى مسؤولون أميركيون مخاوفهم من سماح المجلس العسكري في النيجر لإيران بالوصول إلى احتياطيات البلاد من اليورانيوم، ومن شأن تلك الخطوة أن تساعد إيران على تخصيب كميات كبيرة من اليورانيوم تمهيدًا للحصول على سلاح نووي.

ورغم نفي النيجر فإن أوساطًا أميركية وغربية أكدت حصولها على معلومات استخباراتية تشير إلى أن المجلس العسكري في نيامي يدرس إبرام صفقة مع إيران من شأنها أن تمنح طهران إمكانية الوصول إلى بعض احتياطيات اليورانيوم الهائلة.

وتقول بعض المصادر السرية وفق ما نشرته سكاي نيوز: إن الطرفين وقَّعا اتفاقًا مبدئيًّا يسمح لطهران بالحصول على اليورانيوم من النيجر(4).

تحركات إيرانية تزيد المخاوف الغربية:

1_ استغلال إيران للحرب لرفع مستوى أنشطتها النووية:

استغلت إيران انشغال الولايات المتحدة الأمريكية بالحرب التي تشنها إسرائيل في قطاع غزة، منذ 7 أكتوبر 2023 لتطوير برنامجها النووي بشكل كبير، فوفقًا للتقرير الأخير الذي أصدرته الوكالة الدولية للطاقة الذرية في 26 فبراير 2024، فإن كمية اليورانيوم التي أنتجتها إيران بنسب مختلفة وصلت إلى 5525.5 كلجم، على نحو يمثل 27 ضعف ما هو منصوص عليه في الاتفاق النووي (202.8 كلجم).

وبلغت كمية اليورانيوم المخصب بنسبة 60% نحو 121.5 كلجم، في حين وصلت كمية اليورانيوم المخصب بنسبة 20%، إلى 712.2 كلجم. ويعني ذلك أن إيران ما زالت مصرة على استغلال “الثغرات” التي يتضمنها الاتفاق النووي، والتي مكنتها من رفع مستوى أنشطتها النووية وفي الوقت نفسه الحصول على بعض مزايا هذا الاتفاق، على غرار رفع الحظر الأممي عن الأنشطة المرتبطة ببرنامج الصواريخ الباليستية الذي تمتلكه في 18 أكتوبر 2023(5).

2- تعمد طهران خفض مستوى التعاون مع الوكالة الذرية:

توازى رفع مستوى الأنشطة النووية الإيرانية مع اتجاه إيران إلى اتخاذ خطوات لتخفيض مستوى التعاون مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية، فقد أثارت التصريحات التي أدلى بها رئيس منظمة الطاقة الذرية الإيرانية علي أكبر صالحي، في 11 فبراير 2024، وألمح فيها إلى أن إيران تستطيع في ظل قدراتها الحالية أن تصل إلى مرحلة إنتاج القنبلة النووية في ظل امتلاكها كل المكونات اللازمة لذلك، مع غياب القرار السياسي في هذا الشأن.

وعبر عن قلقه المدير العام للوكالة الدولية للطاقة الذرية رفاييل جروسي، الذي طالب السلطات الإيرانية بالسماح له بإجراء زيارة إلى طهران، في مارس 2024، للتباحث مع كبار المسؤولين بشأن التعاون بين الطرفي؛ إلا أن طهران ردت بالرفض على هذا الاقتراح، وقدمت بدلًا منه اقتراحًا آخر بتوجيه دعوة لجروسي إلى زياتها في مايو 2024 لحضور المؤتمر الأول للطاقة النووية الذي سوف تنظمه إيران(6).

3- تزايد القلق من التركيبة الجديدة للبرلمان الإيراني:

يبدو أن التركيبة الجديدة لمجلس الشورى الإسلامي التي أسفرت عنها الانتخابات التي أُجريت في أول مارس الجاري، أثارت قلقًا خاصًّا لدى الدول الأوروبية، في ظل السياسة الأكثر تشددًا التي يتبناها عدد من أبرز النواب الذين حققوا نتائج متقدمة في الانتخابات، على غرار محمود نبويان الذي جاء في المركز الأول في العاصمة طهران، ويتبع نهجًا رافضًا للمفاوضات النووية والتعاون بين إيران والوكالة الدولية للطاقة الذرية، ويرى أن الاستجابة لمزيد من المطالب التي تطرحها الوكالة معناه تعريض “الإنجازات” التي حققتها إيران في البرنامج النووي للخطر.

وذلك في ظل الرواية التي يعتمدها النظام باستمرار وتقوم على أن عددًا من مفتشي الوكالة على صلة قوية بأجهزة الاستخبارات الأمريكية والإسرائيلية، ويقومون بتمرير المعلومات التي يحصلون عليها خلال عمليات التفتيش إليها، وربما يسعى هذا الجناح الأكثر تشددًا داخل المجلس إلى ممارسة ضغوط أكبر من أجل المضيّ قدمًا في تطوير البرنامج النووي والاستمرار في تخفيض مستوى التزامات إيران في الاتفاق النووي(7).

4- تعرض إدارة بايدن لضغوط سياسية داخلية:

ربما تسعى الإدارة الأمريكية عبر هذا التصعيد الجديد في الملف النووي الإيراني إلى استيعاب الضغوط السياسية التي تتعرض لها في الداخل، خاصةً مع اقتراب موعد الانتخابات الرئاسية في 5 نوفمبر 2024، إذ بدأ الرئيس السابق دونالد ترامب في منح أهمية خاصة للملفات الخارجية في سياق انتقاداته المستمرة ضد الرئيس جو بايدن، وفي مقدمتها الملف الإيراني، حيث يرى أن السياسة التي تتبعها الإدارة الحالية لم تفلح في كبح جماح إيران على المستويين الإقليمي والنووي.

وبدأت اتجاهات عديدة في واشنطن في الإشارة إلى أن إصرار إيران على تطوير برنامجها النووي لهذا المستوى يعود في المقام الأول إلى أنها تبدو مطمئنة إلى حدود الخيارات التي يمكن أن تلجأ إليها الإدارة الحالية في التعامل مع ذلك؛ خاصة مع دخول الولايات المتحدة الأمريكية عام الانتخابات(8).

دوافع واشنطن وطهران لتجنب الصراع:

لعله من الواضح والممكن تفسير أسباب حرص واشنطن وطهران حاليًا على تجنب تصعيد حدة الخلاف حول الملف النووي في ضوء دوافع عديدة، ولعل من أبرزها في الوقت الراهن:

مواصلة سياسة “فصل الملفات”:

تُبدي إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن أولوية قصوى في الآونة الحالية لعدم توسيع نطاق الصراع الحالي الذي فرضته الحرب الإسرائيلية في قطاع غزة في الـ7 من أكتوبر لعام 2023، وتأمين القواعد والمصالح الأمريكية في العراق وسوريا بعد الهجمات التي تعرضت لها من جانب المليشيات الموالية لإيران ودفع المليشيا الحوثية إلى وقف الهجمات التي تشنها ضد السفن المارة في البحر الأحمر.

ومن هنا فإن واشنطن لا تبدو في وارد المغامرة بفتح جبهة تصعيد جديدة ومباشرة مع إيران في الوقت الحالي، على نحو يمكن أن يؤدي إلى إرباك حساباتها السابقة، ويدفع المليشيات الموالية للأخيرة إلى توسيع ساحة المواجهات العسكرية مع إسرائيل، ورفع مستوى التهديدات الموجهة إلى القواعد الأمريكية في العراق وسوريا، ومواصلة تهديد حركة التجارة في البحر الأحمر.

ويعني ذلك أن واشنطن تبدو معنية في الوقت الحالي بردع إيران ووكلائها عن مواصلة سياساتهم القائمة على استهداف مصالحها وقواعدها العسكرية، وممارسة ضغوط أكبر عليها للتحرك من أجل الوصول إلى وقف لإطلاق النار في قطاع غزة، أكثر من الانخراط في تصعيد متبادل مع إيران حول الملف النووي، الذي يبدو ملفًا مؤجلًا إلى حين توافر ظروف أخرى من أجل حسمه.

تجنب تعزيز “قبضة” الأصوليين:

ترى اتجاهات في الولايات المتحدة الأمريكية أن اتخاذ مزيدٍ من الإجراءات التصعيدية ضد إيران، في الوقت الذي تتعرض فيه الأخيرة لضغوط بسبب استمرار الحرب الإسرائيلية في قطاع غزة وتصاعد حدة الضربات التي يتعرض لها وكلاؤها في لبنان وسوريا والعراق واليمن، يمكن أن يساهم في تعزيز قبضة تيار المحافظين الأصوليين، وبالتالي منحه الفرصة للضغط من أجل تبني سياسة أكثر تشددًا في التعامل مع الملفات الإقليمية المختلفة أو الملف النووي، على نحو قد لا يكون متوافقًا بالضرورة مع حسابات واشنطن في المرحلة القادمة.

وربما تكون انتخابات مجلس الشورى الإسلامي ومجلس خبراء القيادة، التي سوف تُجرَى في أول مارس 2023، محط متابعة وتقييم من جانب تلك الاتجاهات، ليس لجهة استشراف توازنات القوى السياسية في المرحلة القادمة، والتي يبدو أنها تميل لصالح تيار المحافظين الأصوليين؛ وإنما لجهة رصد وتقييم رد فعل الشارع السياسي الإيراني تجاه تلك الاستحقاقات والتي ترتبط بمدى رضائه عن السياسة التي يتبناها النظام في التعامل مع القضايا الداخلية والخارجية في آن واحد.

خفض الكمية “الخطرة” من اليورانيوم:

 ما زالت إيران حريصة على مواصلة تخفيض مستوى التزاماتها في الاتفاق النووي، عبر زيادة كمية اليورانيوم المخصب بنسب مختلفة، إلى درجة وصلت معها إلى 27 ضعف الكمية التي قضى الاتفاق النووي الذي توصلت إليه إيران ومجموعة “5+1” في 14 يوليو 2015 (قبل أن تنسحب منه الولايات المتحدة الأمريكية في 8 مايو 2018) بأن تحتفظ إيران بها وهي 202.8 كيلوجرام.

لكن رغم ذلك كان لافتًا أن الكمية “الخطرة” الخاصة باليورانيوم المخصب بنسبة 60% التي تُقرب إيران بشكل كبير من نسبة الـ90% اللازمة للوصول إلى مرحلة إنتاج القنبلة النووية؛ تراجعت، بحسب ما جاء في التقرير الأخير، بنحو 6.8 كيلوجرام؛ صحيح أن ذلك لا ينفي أن إيران لديها من اليورانيوم المخصب بنسبة 60% ما تستطيع من خلاله -إذا ما أرادت ذلك- أن تصل إلى نسبة الـ90% ومن ثم الانخراط في عملية إنتاج أكثر من قنبلة نووية، لكن الصحيح أيضًا أنَّ تعمُّدَ إيران تخفيض الكمية يوحي بأنها تسعى إلى تقليص حدة التصعيد مع الدول الغربية، أو عدم استفزاز الأخيرة، لدرجة قد تدفعها إلى تبني خطوات أكثر تصعيدًا في اجتماع مجلس محافظي الوكالة القادم.

الاحتفاظ بخيار “الصفقة المحتملة”:

ربما لا ينفصل تخفيض إيران كمية اليورانيوم المخصب بنسبة 60% عن محاولاتها الحفاظ على خيار “الصفقة” مع إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن، بعد انتهاء الحرب التي تشنها إسرائيل في قطاع غزة، وفي حالة نجاح الأخير في الفوز بالانتخابات الرئاسية الأمريكية التي سوف تجري في 5 نوفمبر 2023.

وهنا، فإن المقاربة الأكثر ترجيحًا تتمثل في حرص إيران على تخفيض كمية اليورانيوم المخصب بنسبة 60%، مع الاستمرار في عمليات التخصيب بنسب مختلفة، مقابل التزام أمريكي بعدم التصعيد نوويًّا ضد إيران على الأقل في المرحلة الحالية؛ حيث قد تتولى الدول الأوروبية (بريطانيا، وفرنسا، وألمانيا) مهمة توجيه انتقادات أكثر شدة ضد إيران بسبب إمعانها في مواصلة تخفيض مستوى التزاماتها في الاتفاق النووي ردًّا على الانسحاب الأمريكي منه(9).

الخلاصة:

لا شك وعلى الرغم من السرد الفائت أن التوافقات الظاهرة للإعلام بين واشنطن وطهران هشة ومعرضة لاختبارات صعبة في المرحلة القادمة، وعلى ما يبدو إلى الآن أن لغة المصالح هي المتحكم الأول في العلاقة الإيرانية الأمريكية؛ إذ إن استمرار الحرب الإسرائيلية في قطاع غزة وما يرتبط بها من تصعيد على جبهات مختلفة كفيل بإحداث تغييرات محتملة ومفاجئة في أنماط تفاعلات الطرفين مع تلك التطورات، خاصة في حالة ما إذا وقعت أخطاء جديدة في الحسابات على غرار الضربة التي تعرضت لها القاعدة الأمريكية في شمال شرق الأردن، في 28 يناير 2024، والتي دفعت واشنطن إلى اتباع نهج أكثر تشدداً في التعامل مع تهديدات طهران ووكلائها.

وعلى الرغم من وجود الآلة الإعلامية الجبارة التي تنادي بوجود خلفات شديدة بين الجانبين إلا أنه لا يبدو أن الولايات المتحدة الأمريكية سوف تتجه إلى اتخاذ خطوة كبيرة على غرار الدعوة إلى نقل الملف النووي الإيراني من الوكالة الدولية للطاقة الذرية إلى مجلس الأمن.

إذ إن ذلك من شأنه إرباك حسابات الإدارة الأمريكية، سواء فيما يتعلق بالاستعداد للانتخابات، أو ما يتصل باحتمال أن يفرض ذلك انعكاسات على الصراع الذي تتصاعد حدته تدريجيًّا في منطقة الشرق الأوسط، فضلًا عن أن هذه الخطوة ليس من المضمون أن تدفع إيران إلى إجراء تغيير في سياستها باتجاه استيعاب الضغوط والمطالب الغربية، بل إنها قد تتجه إلى تبني مواقف أكثر تشددًا قد لا تقتصر على برنامجها النووي وإنما ربما تمتد إلى تدخلاتها في أزمات المنطقة.

1_ سكاي نيوز

2_ الشرق الأوسط

3_ الشرق

4_ سكاي نيوز

5_ العربية

6_ فرانس 24

7_ D.W

8_ مركز الأهرام والدراسات

9_ الحائط العربي

التعليقات مغلقة.