fbpx
مركز رواق للأبحاث والرؤى والدراسات

تشريعات العمل الأهلي بين الحق الدستوري والهواجس الأمنية

253

ترجع نشأة الجمعيات الأهلية في مصر إلى سنة 1821م حين تأسست أول جمعية أهلية في مصر وهي الجمعية اليونانية بالإسكندرية، تلتها الجمعية الجغرافية عام 1868م (وما زالت حتى الآن) ثم الجمعية الخيرية الإسلامية 1878م، ثم اجمعية التوفيق القبطية(1)، ثم زاد عددها من 159 جمعية في الفترة ما بين عامي 1900م و1924م (2).

ومن ثم كانت الحاجة للاعتراف بحق المواطنين في إنشاء وتأسيس الجمعيات الأهلية وتنظيم عملها قانونيا، فصدر دستور 1923م ينص على حق المواطنين في إنشاء الجمعيات، حتى صدر قانون مستقل بالجميعات وهو رقم 17 لسنة 1938م ولكنه كان يخص حظر تشكيل الجماعات والجمعيات شبه العسكرية، ثم توالت تشريعات الجمعيات بعد ذلك ضمن القانون المدني الأرقام من 54 إلى 80.

وفي عام 1939م أنشئت وزارة الشئون الاجتماعية، وقد ذكر وزيرها 1940م أن من بين أهداف إنشائها مساعدة الجمعيات ماديا وتشجيعها، مما يعني أن وجود الجمعيات في مصر رسميا أسبق من وجود الوزارة المتحكمة فيها الآن. ثم صدر القانون 49 لسنة 1945م. وقد سميت هذه الفترة بالذهبية، ووصفت بالازدهار فيما يخص الجمعيات الأهلية في مصر.

ثم صدرت بعد ذلك التشريعات التي احكمت قبضة الدولة على الجمعيات الأهلية ووضعتها تحت سيطرتها بشكل كامل؛ وكان ذلك بقانون 66 لسنة 1954م وكان أخطر ما فيه أنه نقل اختصاص الرقابة على الجمعيات الدينية والثقافية والعلمية إلى وزارة الداخلية بعد أن كانت تابعة لوزارة الشئون الاجتماعية في قانون 49 لسنة 1945م.

وفي عام 1956م صدر القرار الجمهوري رقم 384 وهو القرار الذي –ولأول مرة في التشريعات المصرية– أخضع أنشطة الجمعيات الأهلية لنوع من التجريم العقابي، ونص على اعتبار مخالفات الجمعيات جرائم جنائية مقرراً لها عقوبة الحبس المشدد توقع على أعضائها. وهذه هي البداية الحقيقية لفقدان الثقة المتبادلة بين الدولة من جهة والجمعيات الأهلية من جهة أخرى.

وفي السياق ذاته صدر القانون 32 لسنة 1964م ليؤكد سيطرة الدولة وإخضاع الجمعيات الأهلية للبيروقراطية الحكومية التي اشتهرت بها غالب الجهات الإدارية آنذاك، وإن كان هذا القانون هو الأول الذي جمع شتات الأحكام المتناثرة من نصوص القانون المدني السالف ذكره وغيره من القوانين والقرارات التي سبق الإشارة إليها ليصبح أول قانون مستقل وكامل ينظم عمل الجمعيات الأهلية والمؤسسات الخاصة(3).

وكان هذا القانون يسمح للجمعيات بأن تعمل في سبعة ميادين حتى صدر قرار رئيس الجمهورية 2340 لسنة 1967م بتعديل بعض أحكام رئيس الجمهورية رقم 932 لسنة 1966م بإصدار اللائحة التنفيذية للقانون 32 المذكور، وقد صدر بموجب هذا التعديل وأجاز لوزير الأوقاف والشئون الاجتماعية أن يضيف بقرار منه ميادين عمل جديدة للجمعيات والمؤسسات الخاصة؛ فأضاف عشرة ميادين أخرى بالإضافة للميادين السابقة.

وبالرغم مما طرأ على المجتمع المصري من تغييرات جذرية سياسية واقتصادية واجتماعية نتيجة للتعددية الحزبية وتبنيها لسياسة الانفتاح وتحولها من الاقتصاد الموجه إلى اقتصاديات السوق في الربع الأول من سبعينات القرن الماضي ظل القانون المذكور ببيروقراطيته حتى أدركت الدولة الحاجة الملحة إلى قانون جديد للجمعيات الأهلية يلبي متطلبات التنمية الاجتماعية والمتغيرات العالمية والمحلية التي تعتمد على القطاع الأهلي والعمل التطوعي كقوة دافعة وفاعلة في تنمية وتطوير المجتمع.

أصدرت الدولة حينئذ القانون رقم 153 لسنة 1999م، ولكن لم يختلف جوهريا عن قانون 32 لسنة 1964م، حتى قضت المحكمة الدستورية بعدم دستوريته، وبذلك عادت الحياة للقانون 32 لسنة 1964م من جديد. حتى قامت الدولة مجددًا بتشكيل لجنة لإعداد قانون جديد وصدر بالفعل القانون 84 لسنة 2002م في شأن الجمعيات والمؤسسات الأهلية، ولم يكن التغيير فيه سوى تغيرات طفيفة، وصدرت أيضا لائحته التنفيذية والتي حوت الكثير من المعوقات والشوائب التي تترصد العمل الأهلي؛ وكرّس القانون النهج ذاته الذي سار عليه قانون 32 لسنة 1964م.

وبعد ثورة 25 يناير 2011م والانفتاح السياسي في أعقابها وانتخاب أول مجلس تشريعي 2012م تنازعت وزارة التضامن الاجتماعي مع لجنتي الشئون الدينية والاجتماعية وحقوق الإنسان في اقتراح مشروع قانون يواكب الثورة والديمقراطية ويعطي مجالاً أرحب لعمل الجمعيات والمؤسسات الأهلية وبالفعل تم نقاش حكومي وشعبي لأكثر من مشروع ولكنها لم تر النور بسبب حل المجلس دستورياً.

وتكرر الحال مع مجلس الشورى وخاصة أن لجنة حقوق الإنسان فيه كانت قد أعدت مشروعاً غلب عليه إرادة الإخوان المسلمين الذين كانوا أصحاب أكثرية في ذلك المجلس ولكنه أيضا لم ير النور. ولكن هذه المشروعات التي لم تتم دفعت الحكومة والمنظمات غير الحكومية لضرورة الدفع بقانون جديد يتواكب مع التحديث والتطور السياسي.

وزاد من هذه الأهمية القضية الصاخبة الخاصة بالتمويل غير المشروع لبعض منظمات المجتمع. خلال شهري فبراير ومارس حتى 13 أبريل 2012م واتهم فيها حوالي 43 شخصا بينهم أمريكيون وجنسيات أخرى واتهامهم بالتدخل في الشئون السياسية للبلاد (4)، وزاد السجال بين مجلس الشعب آنذاك والمجلس العسكري بصفته السلطة الحاكمة، وكان الأخير قد سمح بسفر 13 من أبرز المتهمين دون تقديمهم للمحاكمة.

وفي 2013 صدر دستوراً جديدا، تم تعطيله وجرى الاستفتاء على دستور 2014 والذي نصت المادة 75 فيه على أن:

“ﻟﻠﻤﻮاﻃﻨﻴﻦ ﺣﻖ ﺗﻜﻮﻳﻦ اﻟﺠﻤﻌﻴﺎﺕ واﻟﻤﺆﺳﺴﺎﺕ اﻷﻫﻠﻴﺔ ﻋﻠﻰ أﺳﺎﺱ دﻳﻤﻘﺮاﻃﻰ، وﺗﻜﻮﻥ ﻟﻬﺎ اﻟﺸﺨﺼﻴﺔ اﻻﻋﺘﺒﺎرﻳﺔ ﺑﻤﺠﺮﺩ اﻹﺧﻄﺎر وﺗﻤﺎرﺱ ﻧﺸﺎﻃﻬﺎ ﺑﺤﺮﻳﺔ، وﻻ ﻳﺠﻮﺯ ﻟﻠﺠﻬﺎﺕ اﻹدارﻳﺔ اﻟﺘﺪﺧﻞ ﻓﻰ ﺷﺌﻮﻧﻬﺎ، أﻭ ﺣﻠﻬﺎ أﻭ ﺣﻞ ﻣﺠﺎﻟﺲ إداراﺗﻬﺎ أﻭ ﻣﺠﺎﻟﺲ أﻣﻨﺎﺋﻬﺎ إﻻ ﺑﺤﻜﻢ ﻗﻀﺎﺋﻰ. وﻳﺤﻈﺮ إﻧﺸﺎﺀ أﻭ اﺳﺘﻤﺮاﺭ ﺟﻤﻌﻴﺎﺕ أﻭ ﻣﺆﺳﺴﺎﺕ أﻫﻠﻴﺔ ﻳﻜﻮﻥ ﻧﻈﺎﻣﻬﺎ أﻭ ﻧﺸﺎﻃﻬﺎ ﺳﺮﻳﺎً أﻭ ذﺍ ﻃﺎﺑﻊ ﻋﺴﻜﺮﻯ أﻭ ﺷﺒﻪ ﻋﺴﻜﺮﻯ، وﻻ ﻳﺠﻮﺯ ﺣﻞ اﻷﺣﺰاﺏ إﻻ ﺑﺤﻜﻢ ﻗﻀﺎﺋﻲ وذﻟﻚ ﻛﻠﻪ ﻋﻠﻰ اﻟﻨﺤﻮ اﻟﺬﻯ ﻳﻨﻈﻤﻪ اﻟﻘﺎﻧﻮﻥ”(5)

وتتفق هذه المادة تماما مع المعايير الدولية الخاصة بهذا الشأن.

من هنا كانت الحاجة ماسة لإصدار قانون جديد يتفق والدستور المصري ويواكب أيضاً الاهتمام الدولي بمنظمات المجتمع المدني ومنه على الأخص الجمعيات الأهلية.

فتقدمت وزارة التضامن الاجتماعي بقانون إلى مجلس النواب خلال عام 2016م وناقش لجنة الشئون الاجتماعية وأقرت قانوناً آخر تماما وصدرته لرئيس المجلس التشريعي والذي صوّت عليه البرلمان فخرج القانون رقم 70 لسنة 2017م.

ومن العجيب في هذه النقطة أن القانون الذي قدمته الحكومة كان أكثر مرونة وأقل تشددا من القانون الذي صدر من اللجنة الاجتماعية بالمجلس.

وما أن خرج هذا القانون للنور حتى تسبب في ارتباك وحرج سياسي شديد للسلطة المصرية على جميع المستويات، وخاصة لما تضمنه من إخلال بمبدأ التأسيس بالإخطار وكذلك إقراره لتجريم وعقوبة المخالفين له بعقوبات سالبة للحريات وقيد التمويل الأجنبي والرقابة المالية المتحكمة، وكانت هذه أبرز أسباب الخلاف ورفض القانون داخلياً وخارجياً.

وانبرت جميع أجهزة الدولة وخاصة المجلس النيابي، ووزرات الخارجية والهجرة والتضامن للدفاع عن القانون. وما من زيارة خارجية لأرفع المستويات الحاكمة في مصر إلا ويكون هذا القانون محل نقاش وجدال ويستلزم من الحكومة المصرية الخروج بتبريرات قد تكون أكثر إحراجا لها من القانون نفسه. حتى أن دولاً ومنظمات دولية طالبت رسميا الرئيس السيسي بعدم التصديق على القانون (6).

واستجاب الرئيس لهذه المطالبات فتأخر في توقيعه على القانون ومكث شهوراً في الرئاسة، وحتى بعد أن وقعه لم يخرج القانون لحيز التنفيذ ولم تخرج لائحته التنفيذية للتطبيق وأصبح القانون شبه معُطل. حتى انعقد مؤتمر الشباب عام 2018م وطالبت إحدى المشاركات الرئيس بإعادة النظر في قانون الجمعيات، وأيضاً استجاب الرئيس ووعد حينها بإعادة النظر فيه بل أمر بتشكيل لجنة لتعديل أو إعادة صياغة القانون. والحقيقة أنه من الخطأ الكبير النظر للقانون (70/ 2017 – أو الجديد 2019) اختزال القضية في تعديل بعض مواد القانون؛ فالنقاش الدائر منذ سنوات طويلة حول قانون الجمعيات الأهلية إنما يعكس الإشكالية الحقيقية التي تحيط بالعلاقة بين الدولة والمجتمع الأهلي والتي تتجلى طوال الوقت رغم تغير القوانين في سيادة فلسفة واحدة.

الأمر الثاني الأكثر خطورة لا تتجسد فقط في التعامل القانوني للدولة مع منظمات المجتمع المدني عبر ما تسنه من قوانين ولكنها تتجسد في التعامل السياسي وما يستتبع ذلك من تدخلات أمنية مستمرة هدفها الرقابة والتقييد للعمل الأهلي (7). وخاصة أننا حينما نتابع الخطاب الرسمي الخاص بالجمعيات نجده منذ تسعينات القرن الماضي وهو يعلي من شأنه ويبين أهميته والتأكيد على دوره في المجتمع وأن الحكومة تهدف لمساندتها والعمل على تأهليها(8).

كما أنه في رؤية مصر 2030م لتحقيق التنمية: اعتمدت على المشاركة بين القطاع الخاص والحكومة والمجتمع الأهلي (9).

ــــــــــــــــــــ

(1) الجمعيات الأهلية في مصر وسنوات المخاطر – د. أماني قنديل.

(2) موسوعة ويكيبديا – https://tinyurl.com/yytc3lnw

(3) المذكرة الإيضاحية لقانون 32 لسنة 1964م.

(4) أزمة “التمويل الأجنبي” في مصر تلقي بظلالها على “العسكري” والحكومة والبرلمان – https://tinyurl.com/yxtgwzrv

(5) دستور مصر 2014م.

(6) موقع منظمة العفو الدولية علي الشبكة العنكبوتية https://tinyurl.com/y6jb4zjc

(7) قضايا برلمانية عدد 82 مارس 2019م– تعديل قانون الجمعيات الاهلية ومحاولة بناء توافق وطني – د. هويدا عدلي .

(8) خطاب نائب رئيس الوزراء ووزير التخطيط أمام مجلس الشعب (الدور السياسي الثقافي للقطاع الأهلي – د. أحمد ثابت – طبعة القراءة للجميع).

(9) آليات تحقيق سياسة التنمية الإقليمية المتوازنة في مصر – معهد التخطيط القومي.

التعليقات مغلقة.