fbpx
مركز رواق للأبحاث والرؤى والدراسات

انسحاب مصر من اتفاقية الحبوب… الأسباب والتداعيات

112

قرار مفاجئ كشفت عنه وسائل الإعلام المحلية والدولية، تفيد بأن مصر قررت الانسحاب من اتفاقية الحبوب العالمية اعتبارًا من نهاية شهر يونيو القادم، في خطوة يمكن وصفها بالمفاجئة وبالمثيرة للدهشة؛ خاصة أن القاهرة تعد هي أول الداعين لتأسيس تلك الاتفاقية التي تم تدشينها عام 1995م، وهي كذلك أكبر المستوردين للقمح من بين الـ 35 دولة الموقعين على الاتفاقية، ثم بعد ما يقرب من 30 عامًا، ها هي القاهرة تعلن –في خطوة أحادية الجانب– عن عزمها الخروج من الاتفاقية؛ فما الأسباب التي دفعت مصر نحو الخروج من الاتفاقية؟ وما تداعيات هذا القرار؟ وهل ستتأثر أسعار القمح أم أن مصر أعدت سيناريوهات بديلة لتوفير القمح من أسواق أخرى بعيدة عن هذه الاتفاقية؟ كل هذا وأكثر سوف نجيب عنه في السطور التالية، لكن دعونا نتعرف أولًا على ماهية وطبيعة اتفاقية الحبوب تلك.

ما اتفاقية الحبوب الدولية؟

اتفاقية الحبوب الدولية هي اتفاقية دولية تم توقيعها في عام 1995 بهدف تنظيم التجارة العالمية في الحبوب، وهي تعد جزءًا من اتفاقيات منظمة التجارة العالمية، وقد تم تدشين الاتفاقية بعد مفاوضات دامت 7 سنوات، حيث بدأ هذا التفاوض منذ عام 1986، وانتهى الأمر بتدشينها عام 1995م، وكانت في تضم 33 دولة فقط في البداية ثم انضمت إليها دولتان في وقتٍ لاحقٍ.

وتتألف الاتفاقية من عدة بنود وأهداف، من بينها: تشجيع الإنتاج المستدام، وتوفير الأمن الغذائي للدول الأعضاء، وتعزيز التعاون الدولي والتوازن في تدفقات التجارة الدولية للحبوب، وتوفير معلومات دقيقة وشفافة للدول الأعضاء حول الأسعار والإنتاج والتوقعات المستقبلية، وتشارك مصر كدولة عضو في اتفاقية الحبوب الدولية، وتسعى إلى تعزيز دورها كمركز لتداول الحبوب في المنطقة العربية والإفريقية، ووقَّع على الاتفاقية أكثر من 35 دولة، وهم: الولايات المتحدة، والاتحاد الأوروبي، وأوكرانيا، وروسيا، والجزائر، والأرجنتين، وأستراليا، وكندا، وساحل العاج، وكوبا، والإكوادور، ومصر، والمجر، والفاتيكان، والهند، وإيران، والعراق، واليابان، وكازاخستان، وكينيا، ومالطا، والمغرب، والنرويج، وعمان، وباكستان، وجزر موريشيوس، وبنما، وكوريا، والسعودية، وصربيا، وجنوب إفريقيا، وسويسرا، وتونس، وتركيا، وبريطانيا(1).

أسباب انسحاب مصر من اتفاقية تجارة الحبوب:

حتى هذه اللحظة لم تعلن مصر بشكل رسمي عن أسباب قرار الانسحاب، ولم تكشف عن الدوافع خلف هذا القرار، واكتفت بقولها: إن القرار يتماشى مع ما تنص عليه مواد الاتفاقية، وخاصة المادة 29 التي تمنح الحق لأي دولة من الأعضاء أن تقرر الانسحاب من اتفاقية تجارة الحبوب الدولية في نهاية أي سنة مالية، شريطة أن يكون ذلك بموجب إخطار كتابي يتم تقديم قبل 90 يومًا من نهاية العام المالي(2).

ويفهم من تصريحات وزارة الخارجية بأن مصر لم تحقق ما كانت ترجوه من هذه الاتفاقية، وهذا ما تؤكده التصريحات المقتضبة للوزارة التي أكدت من خلالها: أن عضوية مصر في هذه الاتفاقية لا تنطوي على قيمة مضافة، وأن القرار اتخذ بعد تقييم قامت به وزارتا التموين والتجارة، وخلص إلى أن عضوية مصر لا تمثل قيمة مضافة(3).

أما عن الأسباب الحقيقية وراء قرار انسحاب مصر من اتفاقية تجارة الحبوب الدولية، فهناك عدة أسباب يمكن استخلاصها من واقع الأحداث العالمية الأخيرة التي مرَّ بها سوق الحبوب دون أن تكون لهذه الاتفاقية دور ملموس، ودون أن تساهم الاتفاقية في التخفيف من وطأة الأزمات المتوالية التي كان لها تأثيرًا سلبيًّا على أسعار القمح، ففي عام 2008م شهد سوق الحبوب أزمة طاحنة مثلما حدث تمامًا عام 2011م عندما لجأت بعض الدول إلى استخدام القمح لإنتاج الوقود الحفري، ومع ذلك لم يتحرك المجلس المسؤول عن هذه الاتفاقية لحل الأزمة، ولم يسعَ لتوفير الكميات المطلوبة للدول الأعضاء المشاركة في الاتفاقية، وهو الأمر الذي يتكرر مرة أخرى في ظل أزمة الحبوب الحالية الناتجة عن الحرب الروسية الأوكرانية، ما يعني أن الاتفاقية أثبتت فشلها مرات ومرات، ولم تكن سوى عبئًا جديدًا على كاهل الدولة المصرية التي تعاني أزمة حقيقية في توفير الدولار، ولم تجد العون من الدول الأعضاء المشاركين في الاتفاقية(4).

هذا بالإضافة إلى أن اتفاقية الحبوب تحولت عن أهدافها الحقيقية التي كانت تسعى مصر لتحقيقها من خلال الانضمام لهذه الاتفاقية، وهي تأمين احتياجاتها من القمح، وأصبحت هذه الاتفاقية تمثل عبئًا على مصر ومِن ثَمَّ فإن قرار الانسحاب قرار جيد، ولكن مصر تأخرت كثيرًا في اتخاذ هذا القرار، بل إن قرار انسحاب مصر من الاتفاقية سيؤدي إلى استقرار نسبي في أسعار الحبوب على مستوى العالم؛ لأن مبدأ الشفافيه التي تعمل به الاتفاقية كانت تجبر مصر -وهي أكبر مستورد في العالم- على تقديم كافة البيانات والمعلومات الخاصة بعملية الاستيراد؛ مما يشعل من الأسعار قبل شراء أي كميات أو أي تفاصيل عن المخزون؛ مما يعرضها لخسائر فادحة؛ لأنه كان يتم استخدام البيانات لصالح المصدرين على حساب المستوردين.

كما أن الاتفاقية لم يكن لها أي دور في فترة الأزمات التي مرَّ بها سوق الحبوب العالمي، وبالتالي فإن الاتفاقية فقدت أهم أهدافها، وأصبحت الاستفادة منها مقصورة على الدول المصدرة وليست المستوردة، وذلك لا يتماشى مع رغبة مصر التي تجهز نفسها لتكون مركزًا وبوابة إقليمية لتداول الحبوب للقارة الإفريقية، ومصر قادرة على تأمين احتياجاتها من القمح بعيدًا عن هذه الاتفاقية، وذلك هو ما حدث فعلًا خلال السنوات الأخيرة وخلال الأزمة الروسية على وجه التحديد؛ إذ نجحت مصر في تأمين احتياجاتها من القمح عن طريق علاقاتها مع الدول الأخرى خارج إطار اتفاقية الحبوب.

وفي المجمل، فإن قرار خروج مصر من اتفاقية الحبوب الدولية هو قرار جيد، كان يجب أن تتخذه مصر منذ مدة طويلة؛ نظرًا لتخاذل المسؤولين عن هذه الاتفاقية في توفير الدعم الذي كانت تنشده مصر خلال الأزمات؛ سواء تلك التي مرت بها القاهرة على وجه التحديد، أو تلك الأزمات التي مر بها العالم(5).

النتائج المترتبة على انسحاب مصر من الاتفاقية:

نظرًا لأن مصر لم تعلن حتى اللحظة عن الهدف من وراء خطوتها الأخيرة، ولم تكشف بشكل رسمي عن أسباب خروجها، فإن تحديد الآثار والنتائج قد يكون غير واضح على المدى القريب؛ إلا أننا يمكننا أن نسرد مدى إمكانية تأثير وتأثر مصر من خلال قرار الانسحاب في السطور التالية:

انسحاب مصر من اتفاقية الحبوب الدولية لن يؤثر كثيرًا في سوق الحبوب؛ إذ إن مصر هي دولة مستوردة وليست مصدرة؛ ومِن ثَمَّ فإن فالتأثير المباشر متعلق بمصر وحدها وليس ببقية الدول الأعضاء، ومصر هي أحد أكبر مستوردي القمح بينما تمنح الاتفاقية المميزات الأكبر للمصدرين، وبالتالي فإن الاتفاقية لن تتأثر كثيرًا، وكذلك فإن مصر لن تتأثر سلبًا بقرار الانسحاب من اتفاقية الحبوب الدولية؛ لأن القاهرة سيكون لديها بدائل وهي ليست حكرًا لاتفاقيه تلزمها ولا تلزم غيرها، بل على العكس تمامًا إذ تأثرت مصر سلبًا وهي جزء من الاتفاقية حيث أثرت أزمة الحبوب على مصر عندما ارتفع سعر القمح وزاد الطلب علي الدولار؛ مما أدى إلى زيادة سعر الدولار نفسه وانخفاض قيمة الجنيه المصري علي النحو الذي شاهدناه.

من المؤكد أن مصر لن تتأثر سلبًا بقرار الانسحاب من اتفاقية الحبوب الدولية، وفي حال كان هناك تأثير سلبي لقرار الانسحاب فإن ذلك التأثير سيكون على الدول المصدرة وليست مصر؛ إذ أن مصر هي أكبر المستوردين وأحد المؤسسين لاتفاقية تجارة الحبوب في الأمم المتحدة، وهي تستورد 12 مليون طن سنويًّا، ولا تتأخر في دفع المستحقات ولديها طلب ثابت وكبير؛ لذلك يعتقد أنه سيكون مؤلم للدول المصدرة أن تنسحب مصر من الاتفاقية(6).

بعد الانسحاب من الاتفاقية… كيف تؤمِّن مصر احتياجاتها من القمح؟

مصر التي تعد أكبر مستوردي القمح على مستوى العالم وتستورد 12 مليون طن من الحبوب سنويًّا –كما ذكرنا من قبل– ستكون بحاجة إلى تأمين احتياجاتها من القمح بصورة أو أخرى بعيدًا عن اتفاقية الحبوب الدولية، فهل مصر قادرة على ذلك؟

من البديهي أن قرار الانسحاب الذي يعد مفاجئًا لدول العالم ولأعضاء الاتفاقية، لم يكن مفاجئًا بالنسبة لصناع القرار في مصر؛ إذ تعول مصر على التنوع والبحث عن البدائل لتوفير احتياجاتها من القمح، وتمني نفسها أن يعطي هذا التنوع مصر فرصة للحصول على مرونة أكثر في سعر القمح دون أن تكون مصر رهنًا برضى جهة واحدة كما كان يحدث من قبل في ظل اتفاقية الحبوب الدولية؛ إذ إن التنافس واختلاف مواقف جهات الاستيراد يصب لصالح مصر من حيث السعر والتزود باحتياجاتها.

ويمكن الاستدلال على ذلك من خلال التقارير الرسمية من الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء، التي تشير إلى أن إجمالي واردات مصر من الحبوب بلغت 5 مليارات و945 مليونًا و319 ألف دولار خلال العشرة شهور الأولى من عام 2022، ويمثل القمح أهم واردات الحبوب المصرية، حيث مثلت وارداته 3 مليارات و339 مليوناً و438 ألف دولار خلال تلك الفترة(7).

ومن يمعن النظر في سياسة مصر المتعلقة بتأمين الحبوب خلال الفترة الأخرى، يمكنه أن يلاحظ أن القاهرة سعت إلى التنوع في استيراد حبوبها، فتارة تفعل ذلك مع روسيا، وتارة مع الهند، كما هو الحال مع صربيا وبيلاروسيا وغيرها من دول العالم؛ مما يعني أن مصر لا تريد أن تعتمد على جهة واحدة فقط من أجل تأمين احتياجاتها من القمح.

مصر لا تريد أن تعالج خروجها من اتفاقية الحبوب الدولية بتنويع مصادر الاستيراد فحسب، بل هي لديها خطة قومية تسعى من خلالها إلى إضفاء مزيد من الاستقرار على مستقبل الحبوب، وقد اتخذت مصر عدة خطوات في سبيل تحقيق هذه السياسة، ولعل أبرز هذه الخطوات هي إعلان مصر عن تدشين البورصة السلعية المعنية بتسعير السلع؛ بالإضافة إلى التوسع في المساحات المزروعة من القمح، فبحسب التقارير الرسمية، قد زادت إنتاجية مصر من القمح بنحو 3 أضعاف الطاقات التخزينية، كما زادت المساحات المزروعة بالقمح إلى نحو 124% منذ عام 2017، لتصل لنحو 3.5 مليون فدان، فضلًا عن أن مصر تستهدف زيادة الكمية المزروعة بمحصول القمح بنحو 1.5 مليون فدان خلال الثلاثة أعوام المقبلة(8).

الخلاصة:

نستخلص مما سبق: أن قرار مصر المفاجئ بالانسحاب من الاتفاقية الدولية للحبوب تم التخطيط له من قِبَل المسؤولين بالدولة المصرية، بعد أن فشلت الاتفاقية في تأمين احتياجات مصر اللازمة من القمح لا سيما وقت الأزمات، وهو ما اعتبرته الحكومة المصرية تخاذلًا وتقاعسًا في قيام مجلس الاتفاقية بأداء دورها المنوط بها، حيث كان الأصل في هذه الاتفاقية أن الدول التي لديها فائض سوف تمد الدول المستوردة بالكميات المطلوبة من الأقماح وبأسعار عادلة؛ إلا أن ذلك لم يحدث بالنسبة لمصر، ولولا نجاح الدبلوماسية المصرية في توفير احتياجاتها بعيدًا عن الاتفاقية؛ لأصبح الوضع أكثر تأزمًا في مصر.

كما نستخلص: أن مصر درست قرارها جيدًا قبل الإعلان عنه، وأنها قيَّمت الخسائر والمكاسب المترتبة على قرار الانسحاب، وتبيَّن لها أنها لن تتأثر سلبًا، بل إن الأقرب للتأثر السلبي هم الأعضاء المصدرين؛ لأنهم سيفقدون تواجد مصر التي تعد أحد أكبر مستوردي القمح على مستوى العالم.

ويمكن القول: إن كيفية وتوقيت القرار المصري، يثبت أن مصر لديها خطتها البديلة لتأمين احتياجاتها من القمح، ويمكن تقسيم هذا الخطة إلى جزئين أساسيين، أولهما: هو التوسع والتنوع في المصادر التي تستورد منها مصر احتياجاتها، وعلى الرغم من أن روسيا سيكون لها النصيب الأكبر في إمداد مصر بالقمح –بعيدًا عن ضغط الدولار–؛ إلا أن مصر لن تكتفي بجهة واحدة تستورد منها؛ مما يضمن لمصر الحصول على سعر تنافسي.

أما الجزء الثاني من خطة مصر بعد قرار الانسحاب، فتتمثل في الاعتماد على الداخل المصري وذلك من خلال التوسع في المساحات المزروعة من القمح وإضافة مساحات جديدة من أجل ذلك، فضلًا عن التوسع الرأسي من خلال استنباط سلالات أكثر جودة وأكثر إنتاجًا؛ مما يضمن لمصر الحصول على كميات أكبر من القمح.

مصادر يمكن الاستعانة بها:

  1. “اتفاقية الحبوب الدولية وضرورة ضبط الأسواق العالمية”، صحيفة الشرق الأوسط العربية، 23 ديسمبر 2021 .
  2. 2-   “اتفاقية الحبوب الدولية” ويكيبيديا “الموسوعة الحرة”، 12 مارس 2023.
  3. 3-   “ماذا يعني انسحاب مصر من اتفاقية الحبوب؟”، سكاي نيوز عربية، 10 مارس 2023م.
  4. “تعرف على أسباب وتداعيات انسحاب مصر من اتفاقية تجارة الحبوب”، موقع بي بي سي، 11 مارس 2023م.
  5. “بعد الانسحاب من اتفاقية الحبوب، كيف ستؤمن مصر وارداتها؟”، دويتش فيله، 11 مارس 2023م.
  6. “تعرف على أسباب وتداعيات انسحاب مصر من اتفاقية تجارة الحبوب”، موقع بي بي سي، 11 مارس 2023م.
  7. “ماذا يعني انسحاب مصر من «اتفاقية تجارة الحبوب»؟”، الشرق الأوسط، 10 مارس 2023م.
  8. “مصر… خطة للاكتفاء الذاتي من القمح وزراعة 1.5 مليون فدان”، سكاي نيوز عربية، 27 مارس 2022.

التعليقات مغلقة.