fbpx
مركز رواق للأبحاث والرؤى والدراسات

مرحلة الشر المطلق في السودان.. أسبابها وتداعياتها على الداخل والخارج

53

مرحلة الشر المطلق في السودان.. أسبابها وتداعياتها على الداخل والخارج

تشير بعض التقديرات والمُعطيات في الصراع السوداني إزاء التطورات الحالية على الأرض إلى سيناريوهات حُلوها مرٌّ، في ظل استمرار المعارك الدائرة بين قوات الدعم السريع والجيش السوداني، ولعل أخطر هذه السيناريوهات: تلك التي باتت تتكشف دوافعها والجهات التي تقف خلفها، والأسباب الخفيَّة من وراء هذا القتال المستعر، حيث تهيئة الشعب السوداني لسيناريو التقسيم الجديد لما بعد الحرب، كما حدث من قبل في فصل الشمال عن الجنوب.

إن التحول في دفَّة الصراع وبناء تحالفات جديدة للطرفين يزيد من المخاوف من وجود دولة منقسمة، أكثر هشاشة ووهنًّا؛ خاصة وأن أيًّا من الطرفين لا يبدو مستعدًا -حتى كتابة هذه السطور- لتقديم تنازلات على طاولة المفاوضات ولم يحرز أي منهما تقدمًا حاسمًا على الأرض، مع استثناءات قليلة هنا وهناك من كلا طرفي الصراع، خاصة مع كشف النقاب عن وجود قوى كبرى إقليميَّة ودوليَّة خلف قوات الدعم السريع.

سنتعرف في مركز “رواق” للدراسات والأبحاث، وفي هذا التقرير عن تداعيات الصراع في السودان، وهل تتغير المعادلة نتيجة دعم كلا الطرفين خلال المدة الأخيرة، وأثر هذه الحرب على المواطنين، لا سيما في ظل تعاظم عمليات السرقة والنهب وانعدام الأمن، وكيف انحدر السودان بعد انفصال الجنوب، وسيناريوهات استمرار القتال المستعر بين الجيش والدعم السريع، وتداعيات سيناريو الحرب الأهلية على دول الجوار.

وليس مستغربًا عدم وصول العديد من المفاوضات -تلك التي اتسمت بالعقم- والمبادرات منذ بداية الأزمة -وللأسف- لم يعد من الممكن التوصل إلى وقف دائم أو مؤقت للحرب أو بعض الأعمال العدائية لمراعاة مصالح الشعب السوداني المكلوم الذي يعاني جراء هذه المعارك الطاحنة، والتي سرعان ما تستأنف بمجرد انتهاء أي هدنة بين الطرفين، كما لم تؤدِّ جولات المفاوضات بمشاركة مصر، والولايات المتحدة والسعودية إلى أي انفراجة للأزمة، بجانب مفاوضات منظمة “الإيغاد” التابعة للاتحاد الإفريقي.

إن فشل الوساطات الدوليَّة العديدة تثير مخاوف من أن يؤدي استمرار هذه المعارك بين الدعم السريع المدعوم دوليًّا والجيش السوداني واستمرار الوضع الحالي المتأزم إلى تقسيم جديد للسودان بعد انفصال الجنوب عن الشمال.

استمرار القتال ومرحلة “الشرُّ المطلق”:

وبالطبع تؤدي الموجة المستمرة والمتزايدة من تسليح المدنيين إلى تفاقم الانقسامات الاجتماعيَّة، وهو ما دعا منظمات دولية وأممية التحذير من أن العنف في السودان وصل إلى مرحلة ما يوصف بـ “الشرِّ المطلق” حيث عبرت عن القلق البالغ إزاء ما يحدث، لا سيما بشأن الهجمات ذات الدوافع العرقيَّة في دارفور، ما يعني أن الفشل في التوصل إلى حل سياسي سوف يفضي إلى وضع مماثل لما حدث في ليبيا، أو الخوف من وجود أكثر من حكومة واحدة.

ولكن بالرغم من أن محمد حمدان (حميدتي) -قائد الدعم السريع- قادر على الاعتماد على حلفاء أقوياء وداعمين له في الإقليم وخارجه؛ إلا أن الفريق عبد الفتاح البرهان لا يزال يحافظ -حتى الآن- على منصبه كرئيس فعلي للدولة في المنتديات والمحافل الدولية ويشارك في اجتماعات الأمم المتحدة وجامعة الدول العربية، ولكن ما يدفع ثمن هذا الصراع هو المواطن المكلوم الذي يعاني مرارة العيش وعدم توافر الأمن والغذاء.

كما الخطر أيضًا يكمن في التقدم الملحوظ على الأرض الذي حققته قوات الدعم السريع في مدن، مثل: دارفور والخرطوم وود مدني يمنحها ميزة نسبية في السماح لها بالتحرك داخل قواعدها؛ وذلك لأن قوامها هو الجماعات العربية المسلحة، حيث تنفذ هذه الميليشيات العربية المسلحة من قبل سياسة “الأرض المحروقة” في دارفور لمصلحة الرئيس السابق عمر البشير، وبقيادة حميدتي. (الأهرام).

ولا شك أن سقوط مدينة كبيرة بحجم “ود مدني” وانسحاب الجيش منها يعكس قدرة قوات الدعم السريع على تحقيق نصر عسكري ولو كان محدودًا نظرًا للدعم المقدم لها، إنها تحدد دومًا المكان والزمان وتنتصر في المعركة، وفي نهاية المطاف حتى لو تمكنت قوات الدعم السريع من السيطرة على الحكم وهزيمة الجيش فلن تتمكن من الحفاظ على استقرار ووحدة السودان بسبب بنيتها التنظيمية وفقدانها للدعم الشعبي، وذلك هو سيناريو الفوضى بعينه الذي يعد أكثر سوءًا من سيناريو التقسيم.

يقابل ذلك التقدم الملحوظ للدعم السريع حتى كتابة هذا التقرير، وقد تتغير المعادلة على الأرض خلال الأشهر القادمة، عندما زار رئيس مجلس السيادة السوداني عبد الفتاح البرهان لوحدات عسكرية بولاية القضارف الشهر الماضي: إنه إذا لم ينتهِ الصراع في البلاد، فلن تكون هنالك عملية سياسية.

كذلك إن تصريحات الفريق البرهان تلك تعني أنه كيف يمكن عمل اتفاق وسلام مع شخص لا يلتزم وكل يوم له رأي، وبالتالي فلن يكون هناك سلام إلا بعد نهاية هذا التمرد، في إشارة إلى قوات الدعم السريع بقيادة محمد حمدان دقلو الشهير بـ “حميدتي”.

كما أن المعركة الآن باتت تأخذ طابعًا مختلفًا عن الـ 10 أشهر الماضية، حيث استمرار اشتباكات عنيفة وواسعة النطاق بين قوات الجيش السوداني وقوات الدعم السريع في مناطق متفرقة بالسودان، ويحاول كل من الطرفين السيطرة على مقار حيوية، من بينها القصر الجمهوري ومقر القيادة العامة للقوات المسلحة وقيادة قوات الدعم السريع وعدد من المطارات العسكريَّة والمدنيَّة. (الأهرام).

خصوصًا مع توسط العديد من الأطراف العربيَّة والإفريقيَّة الدوليَّة أيضًا لوقف إطلاق النار؛ إلا أن هذه الوساطات باءت بالفشل ولم تنجح في التوصل لوقف دائم لإطلاق النار، للتخفيف عن كاهل الشعب.

الوساطة الأمريكية واللامبالاة من الصراع:

إن غياب الوساطة الأمريكيَّة ربما يرجع لعدم النيَّة الحقيقيَّة أو الرغبة في وقف الحرب الدائرة الذي قد يؤدي إلى تقسيم جديد للسودان وفق مؤشرات وتقارير دولية وتحذيرات مصرية أيضا حيث إن مصر الجار الأكبر للسودان، أو لعل السبب الرئيس وراء العجز الأمريكي أو عدم الرغبة بالتدخل الحاسم في المسألة السودانيَّة يرجع إلى تقدم جو بايدن في السن من جهة، وانشغاله بالعدوان الصهيوني على غزة، وبالطبع دعمه لقوات الاحتلال.

كما لم يعد لدى بايدن سوى القليل من الوقت للتركيز على السودان، لا سيما مع انطلاق حملة إعادة انتخابه، مما يدلل على أن هذه اللامبالاة الأمريكيَّة والدوليَّة تمثل من وجهة نظرنا خطأً إستراتيجيًّا؛ لأنها تدفع السودان بقوة نحو سيناريو التقسيم، وأيضًا لا تخدم مصالح واشنطن في المنطقة وتفسح المجال واسعاً لقوى أخرى لسد هذا الفراغ، مثل: الصين وروسيا. (الأهرام).

لقد بات أقصى طموحات المواطن السوادني هو وقف إطلاق النار بين طرفي الصراع، حيث القوات المسلحة السودانية وقوات الدعم السريع، ولكن يذهب سياسيون إلى فرضية مدى إمكانية توقف القتال المسلح في السودان، ومدى جاهزية القوى السياسيَّة والمدنيَّة والعماليَّة والثوريَّة في المشاركة في إكمال البناء الوطني للسودان، وتفهمها لتطور التركيبة السياسيَّة الداخليَّة في جميع ولايات السودان عبر المراحل الزمنية التي مرت بها الحياة السياسيَّة في السودان منذ الاستقلال وحتى أحداث الإطاحة بالرئيس عمر البشير عام 2019م.

لماذا اندلعت الاشتباكات المسلحة بين الجيش والدعم السريع؟

فقد ظهرت أبعاد الخلاف بين الجيش وقوات الدعم السريع، في أنباء تناولتها المواقع الإخبارية الدوليَّة خلال الساعات الأولى من اندلاع أعمال العنف المسلح بين الطرفين، وحملت هذه الأنباء روايتين عن طرفي القتال حول أسباب الاشتباكات، الأولى: من جانب الجيش السوداني الذي اتهم قوات الدعم السريع بالغدر والخيانة، ومحاولة الهجوم على قواته المتمركزة في المدينة الرياضيَّة ومواقع أخرى، وأنه تصدى لهذا الهجوم.

والثانية: من جانب قوات الدعم السريع المدعومة إقليميَّا ودوليَّا التي اتهمت الجيش بدخول مقر وجود قواتها صباح 15 إبريل في أرض معسكرات سوبا بالخرطوم، ما عرضها لهجوم كاسح بكل أنواع الأسلحة الثقيلة والخفيفة، وتعد مسألة دمج قوات الدعم السريع في القوات المسلحة أحد أبرز مسببات الصراع بين الجيش والدعم السريع إلى جانب قضايا سياسيَّة أخرى، من بينها رفض الدعم السريع الاندماج في الجيش والتخلي عن المشاركة في الحياة السياسيَّة وتقاسم السلطة. (السياسة الدولية).

أوجه الخلاف بين الجيش والدعم السريع:

إن الخلاف بين “الجيش” و”الدعم السريع” يخلُص إلى أن الجيش يريد دمج قوات الدعم السريع وفقا لآليات ومواقيت وشروط دمجهما في قوات مسلحة موحدة، وإخضاع ضبَّاط الدعم السريع للشروط المنصوص عليها في الكليَّة الحربيَّة، ووقف التعاقدات الخارجيَّة والتجنيد والابتعاد عن العمل السياسي ويُفترض أنه الطبيعي أن يكون هناك جيش موحد للدولة.

ولكن يتحجج الدعم السريع بضرورة هيكلة القوات المسلحة قبل الدمج، وتجريم الانقلابات العسكريَّة وفرض الرقابة المدنية على المؤسسة العسكريَّة عبر البرلمان، ومراجعة وتطوير العقيدة العسكرية وتنقية القوات المسلحة وقوات الدعم السريع من عناصر النظام السابق وأصحاب الأيديولوجيَّات.

صمود الدعم السريع أمام جيش مُنظّم يثير علامات استفهام؟

علينا أن نتوقف قليلًا عند استمرار قوات الدعم السريع أمام جيش وطني منظم وحتى لو كانت جزءًا منه، وهو كيف وصلت قوات الدعم السريع إلى ما هي عليه في الوقت الراهن من سلطة ونفوذٍ وقوًى وعتاد مستمرَّيْن؟ الأمر الذي ساهم لها في السيطرة على بعض التمركزات الخاصة بالقوات المسلحة السودانيَّة، وباتت قوى تنافس الجيش السوداني في السيطرة على دولة الشمال.

لقد بات نوع القتال واضحًا بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع ويسير على نهج “حرب الاستنزاف”؛ ذلك القتال المسلح الذى يخوضه الطرفان على مدى مرحلة زمنية طويلة ولا تنتهي إلا بافتقار أحد الطرفين للجنود والمعدات أو العزم على مواصلة القتال؛ ربما هذا ما سوف يؤول إليه المشهد السوداني المعقد الآن؛ الأمر الذي حذر منه مراقبون للمشهد المعقد في السودان، كما يخشى -أكثرهم تفاؤلًا- من أن المواجهات في السودان قد تتحول أو بدأت تتحول بالفعل إلى حرب عرقية وأهلية مع طول أمد القتال المسلح. (السياسة الدولية).

كيف نشأ الدعم السريع.. “الجنجويد“:

لقد انضمت قوات الدعم السريع إلى صفوف الجيش السوداني منذ عام 2007م عدد من الجماعات المسلحة لدعمه في الحرب ضد المتمردين في جنوب السودان، وكان من بينها جماعة “الجنجويد” آنذاك، بلغ عدد سكان “الجنجويد” 10 آلاف نسمة، وعدد المقاتلين 1600 مقاتل، ومثلت نسبة المقاتلين 0.5% من قوام الجيش السوداني آنذاك.

كما استعان الرئيس المعزول عمر البشير بجماعة الجنجويد في دعم الجيش السوداني في الحرب ضد التمرد في إقليم دارفور، في الصراع القائم حول الحدود آنذاك منذ عام 2003م، وتسببت ممارسات “البشير” لتعرض السودان لعقوبة حظر نقل الأسلحة إلى دارفور، ورغم ذلك أصر “البشير” على تزويد الجنجويد بالسلاح والذخيرة، فضلًا عن الدعم المتبادل مع المتمردين التشاديين في الحرب على الجماعات المتمردة في دارفور.

حيث يستخدم مصطلح الجنجويد تاريخيًّا في دارفور للإشارة إلى الرجال المسلحين أو قطَّاع الطرق أو الخارجين على القانون، كما بدأ يطلق المصطلح منذ أزمة عام 2003 م على ميليشيا قبائل العرب الرحالة التي تدعمها الخرطوم، وجذبت الميليشيا عددًا كبيرًا من مجموعة الأبالة زريقات.

وبعدها قامت جماعة “الجنجويد” بدعم الجيش السوداني في سحق التمرد في منطقة دارفور الغربية، وكان الجيش السوداني يشن الهجوم بالطائرات، فيما يستخدم “الجنجويد” الأسلحة الثقيلة في الهجوم على الأرض.

وبحسب الأمم المتحدة، قُتل ما يقدر بنحو 300 ألف شخص في الصراع بين عامي: 2003 و2008، ونزح 2.5 مليون إنسان، ووجهت المحكمة الجنائيَّة الدوليَّة اتهامًا للرئيس البشير بالإبادة الجماعية والجرائم ضد الإنسانيَّة عام 2009م.

لذا فقد أراد الرئيس عمر البشير مكافأة جماعة “الجنجويد” على دعمهم له، فقرر إضفاء مظهر مؤسسي رسمي للجماعة عام 2013، بمنحهم مهامًا رسميَّة بنشر أعضائها ضمن قوات حرس الحدود، تحت مسمى قوات الدعم السريع، وتحول “حميدتي” من زعيم لـ”الجنجويد” لرئيس الدعم السريع، ثم انقلب على “البشير” وساعد على الإطاحة به خلال انتفاضة شعبيَّة عام 2019م.

وتشير تقاريرٌ دوليَّة وغربيَّة إلى أن عدد قوات الدعم السريع يتراوح بين 70 و 150 ألف مقاتل في الوقت الراهن، من بين أعضائها ضباط سابقون في الجيش والمخابرات السودانيَّة.

بداية انحدار السودان بعد انفصال الجنوب عن الشمال:

لا يخفى على أحد وخصوصًا العسكريين والسياسيين أن الصراع هو استنزاف لموارد الدولة وأسلحتها ومقوماتها الاقتصادية، كذلك هو بداية الانحدار أو أبرز أسباب هشاشة وانحدار دولة شمال السودان، سيما بعد الانفصال وأن عملية السلام الشامل وما شابها من عوارٍ في الاستفتاء لم تحسم أيًّا من قضايا ما بعد الاستفتاء بما فيها قضايا الحدود، والاتفاقات، وقضايا المواطنة، وعائدات النفط.

وكذلك مصير كل من النيل الأزرق وجنوب كردفان، وكان من الصعب أن تشهد دولتا الشمال والجنوب أي تحول ديمقراطي يذكر بعد الانفصال في ظل تصارعهما في موجات من الحروب والجرائم مع غياب أمنى وتراجع اقتصادي، ما أثر بشكل كبير في دولة الشمال التي لم تستطع بعد الانفصال من تحقيق أي نمو يذكر، حتى على المستوى السياسي من حيث تأسيس ولايات قوية وفاعلة.

أضف إلى ذلك: إنه ومع انفصال الشمال السوداني عن الجنوب، كانت لهذا الانفصال عواقب وخيمة وتبعات سلبية شديدة الخطورة بدرجة عصت على حكومة شمال السودان التعامل معها، ما جعلها تذهب للتفاوض مع الأحزاب السياسية الرئيسة في محاولة لاحتواء الآثار المترتبة على الانفصال آنذاك، كانت حكومة الشمال لا توفر صلاحيات حقيقية للأحزاب السياسية، بل إن التحرك الحكومي إزاء الأحزاب كان “ديكوريًّا”، وأسهم في تآكل مصداقيَّة الحكومة والأحزاب معًا؛ كونه لا يفضي إلى أي تغيير في المعادلة السياسيَّة الداخليَّة ولا إلى أي نوع من تداول السلطة، ولا خفض مستوى التهديدات الناجمة من تمرد الأقاليم على الدولة؛ الأمر الذي نتج عنه عوامل ساهمت في تفاقم معاناة المواطن السوداني في كل الولايات السودانيَّة.

ويتضح من ذلك: أن فرضية توقف القتال المسلح في السودان بين الجيش وقوات الدعم السريع، هي آمال تبدو بعيدة المنال، وأمر يتطلب بذل الكثير من الجهود الوطنيَّة المخلصة والإقليميَّة والدوليَّة، واستعداداتٍ داخليَّة يقع عبء القيام بها على القوى السياسيَّة والمدنيَّة والأحزاب التي انفرطت وحدتها بين الانقسامات والانشقاقات والتشرذم القائم على الطائفيَّة والقبليَّة والتوزيع الجغرافي والانتماء السياسي.

سيناريوهات متأزمة وتداعيات كارثية.. فما هي؟

تخلص الأوضاع الكارثية الحالية ومع سرعة ارتفاع وتيرة الصراع المسلح بين الجيش وقوات الدعم السريع في السودان إلى مؤشرات سلبية ومدى قابليَّة الطرفين لقبول الدعوات بوقف إطلاق النار المؤقت، والجلوس من أجل التفاوض على اتفاقية سلام تنهى هذا الصراع المتشابك والمتعدد الأبعاد، في ظل دعوات الفاعلِين الإقليمِيّين الرئيسين، إلى السلام؛ إذ لا يرغبون في وجود صراع إقليمي يُشكل عبئًا آخر على الإقليم ككل.  

كما أدان الشركاء الدوليون، مثل: مصر والسعودية والاتحاد الأوروبي والمملكة المتحدة والولايات المتحدة الأمريكية، العنف ودعوا إلى استئناف المحادثات، لكنهم على ما يبدو واضحًا يفتقرون إلى القوة اللازمة لفرض إجراءات حثيثة على الأرض، ومن بين هذه السيناريوهات الكارثية ما نوجزه في الآتي:

– سيناريو وقف إطلاق النار:

إن هذا السيناريو يعتمد على مدى قوة اللاعبِين والفاعلِين الإقليميِّين والدوليِّين في الضغط على طرفي الصراع أو أحدهما بوقف إطلاق النار ولو بشكل متقطع أو دوري، إلى أن يتم إيقاف القتال لمدة زمنية يمكن خلالها إحداث شيءٍ من الهدوء النسبي والاستقرار المؤقت يتيح للوسطاء بمشاركة القوى السياسيَّة والمدنيَّة الفاعلة في المشهد السوداني من خلق تقارب في بين طرفي الصراع من أجل عقد اتفاق سلام بينهما، يحد من العنف والتناحر بين القوتين.

– سيناريو استمرار القتال بين الجيش والدعم السريع:

وعلى ما يبدو جليًّا كما تشير المعطيات الحالية في المشهد الدائر، أن السيناريو الأكثر ترجيحًا هو استمرار القتال المسلح بين الجيش والدعم السريع داخل المدن، على الرغم من الضغوط المتزايدة من قبل الفاعلين في المبادرات الإقليميَّة والدوليَّة الدبلوماسيَّة وتأثير قمة القاهرة لدول جوار السودان في موقف طرفي الصراع من توقف قصير لإطلاق النار.

ولكن الخطر الأكبر على السودان يكمن في استمرار القتال المسلح بين طرفي الصراع مع استمرار تكافؤ القوة العسكرية النسبي بينهما من خلال تدخل بعض الدول بالمنطقة في الصراع بشكل مباشر أو غير مباشر عبر تزويد “طرفها المفضل” في الصراع بالمال والأسلحة وأشكال الدعم العسكري الأخرى.

كما يشكل استمرار القتال المسلح في السودان مصدرا لتهديد مصالح دول الجوار الإقليمي -وخاصة في منطقتَي: القرن الإفريقي والساحل والصحراء- التي تتأثر بشكل أساسي بالتفاعلات الإقليمية في المنطقة.

ويعد مدى تأثر مصالح دول الجوار الإقليمي باستمرار القتال المسلح في السودان شديد للغاية؛ إذ إن أبعاده ذات صلة بالمصالح السياسية في المحيط الإقليمي، ما يخشى من انتقال الصراع إلى بعض الدول التي تعاني بالفعل توترات سياسيَّة وأمنيَّة وهشاشة الأنظمة السياسيَّة فيها، مثل: تشاد، وإفريقيا الوسطى، وجنوب السودان، وإريتريا، وإثيوبيا، كما يخشى من تحول السودان لبؤرة صراعية تتدافع نحوها العديد من القوى الدوليَّة.

كذلك، فإن استمرار الصراع الدائر المسلح بين الجيش والدعم السريع يفاقم من معاناة السودانيين، وارتفاع الاضطرابات القائمة في القرن الإفريقي والساحل والصحراء؛ خاصة أن السودان سيكون مؤهلًا لإيواء المزيد من الحركات المسلحة التي ستنطلق نحو مهاجمة دول الجوار، متخذة الحدود السودانية -في ظل سيولتها- ممرًّا لعبور الأسلحة والمسلحين إلى دول القرن الإفريقي، والساحل والشمال الإفريقي أيضًا؛ خاصة ليبيا التي مثلت عبئًا ثقيلًا لدول الساحل خلال العقد الأخير، مع تهديدات بمزيد من مرور المهاجرين الأفارقة إلى أوروبا؛ الأمر الذي يعني وفق مراقبين إلى تجاوز مخاطر الصراع السوداني محيطه الإقليمي إلى بعض المناطق الأخرى، مثل: القارة الأوروبية.

– سيناريو الانزلاق نحو الحرب الأهلية:

تشير بعض المؤشرات إلى أن هذا السيناريو يعد الأسوأ لمستقبل الأزمة السودانيَّة، وما يدلل على ذلك هو انتقال الصراع شيئًا فشيئًا إلى مدن وولايات جديدة تجاوزت العاصمة الخرطوم إلى باقي الولايات الأخرى، ولكن على ما يبدو أن هذا السيناريو قد يتحقق، ولكن في حال ضعف إحدى القوتين المتصارعتين بعد إطالة أمد القتال واستنزاف عزيمة وإرادة جنودها وانخفاض أعداد المقاتلين ونفاد عتادها، أو أن يكون بسبب انقطاع الإمدادات الخارجيَّة من مال وأسلحة.

لذلك فلا بد من وقف القتال بشكل عاجل وتغليب مصلحة الشعب الذي يئنُّ من ويلات هذا الصراع، وفي حال ما إذا استمرت المواجهات المسلحة بين الجيش وقوات الدعم السريع لمدة طويلة نسبيًّا؛ فإنها يمكن أن تتحول إلى حرب أهلية شاملة، وخاصة في ظل عمق الانقسامات الرأسيَّة في المجتمع السوداني من ناحية، وإرث الحروب الأهلية منذ عهد الاستقلال.

ما تداعيات سيناريو الحرب الأهلية على دول الجوار؟

إن استمرار القتال المسلح في السودان وانزلاقه إلى حرب أهلية ينذر بآثار كارثية على دول الجوار، وهي: مصر، وليبيا، وتشاد، وجنوب السودان، وإفريقيا الوسطى، وإثيوبيا، وإريتريا، وهي في جلها دول تعاني أزمات مختلفة، بعضها سياسيَّة وأخرى اقتصاديَّة، وقد تفضي إلى تشابك مع عدة قضايا إقليميَّة، تمتد عبر السودان مثل: قضية سد النهضة، كما قد يؤدي إلى إمكانية تصاعد النشاط الإرهابي والعصابات الإجراميَّة على الحدود، مما يهدد استقرار هذه الدول المجاورة. (السياسة الدولية).

تداعيات الصراع في السودان على مصر:

تعتبر مصر من أبرز الدول المهددة من تحقق سيناريو الحرب الأهلية في السودان؛ خصوصًا أنها دولة كبيرة ومستهدفة، وذلك نظرًا لأنها دولة كبيرة عسكريًّا وسكانيًّا، كما تتمتع بموقع إستراتيجي مميز؛ لذا ما يجري من الصراعات في السودان، نتج عنها انعكاسات سلبية على ملف سد النهضة من تعسف وتعنت حثيث من إثيوبيا.

كما يعد السودان موردًا رئيسًا للمواشي واللحوم وهي إحدى السلع الاستراتيجيَّة لمصر؛ حيث يمد السودان مصر بنحو 10% من احتياجاتها من هذه السلع، وهو ما تسبب في زيادة الضغط على أسعار اللحوم محليًّا وارتفاعات غير مسبوقة؛ مما ساهم في مزيد من التضخم في الأسواق المصرية. (الجزيرة).

تداعيات الصراع في السودان على ليبيا:

بالنظر إلى طبيعة الأوضاع المتردية في ليبيا ووجود حكومتين هناك، كذلك الحدود غير الآمنة، مما يجعل الصراع في السودان أمرًا يزيد من معاناة الدولة الليبيَّة صعوبة وعدم تأمين حدودها، حيث تتخوف ليبيا من تأثير الحرب في السودان في ملف ترحيل المرتزقة إلى بلادهم، وتدفق اللاجئين في ظل عدم الاستقرار الأمني والسياسي والاقتصادي في ليبيا.

وقد حذرت من قبل وزارة الدفاع الليبيَّة من أن ما يحدث بالسودان -بغض النظر عن نتائجه النهائية- سينعكس على الأوضاع في ليبيا؛ نظرًا لوجود حدود مشتركة هشة أمنيًّا؛ يشير بذلك إلى أن عناصر الفريق الخاسر بهذا الصراع قد يجدون بها ملاذًا آمنًا وينطلقون منها نحو الأراضي الليبية.

تداعيات الصراع في السودان على تشاد:

فقد صرحت الفرق التابعة لمفوضيَّة الأمم المتحدة الساميَّة لشؤون اللاجئين الموجودة على الحدود بأنه فر بين 10 آلاف و20 ألف شخص من المعارك الجارية في السودان بحثًا عن ملاذ في تشاد المجاورة، لكن تشاد تتخوف من تسلل فئات مسلحة إلى البلاد، لذلك أغلقت الحدود بينها وبين السودان.

تداعيات الصراع في السودان على إفريقيا الوسطى:

كذلك فإن الصراع المسلح في السودان بسبب الاضطرابات الأمنية على طول الحدود بين البلدين، يسهم في تضرر حركة المرور فيما بينهما، ما يؤدي إلى زيادة كبيرة في أسعار السلع الأساسيَّة، لا سيما أن السودان يزود العديد من البلدان في إفريقيا الوسطى بالسلع الأساسيَّة، كما تضاعف سعر العديد من السلع بمقدار الضعفين ما أدى إلى مزيد من التضخم بالنسبة إلى بعض السلع.

تداعيات الصراع في السودان على جنوب السودان:

يجب أن نعلم أن تداعيات الصراع أو الحرب الأهليَّة في السودان حال وقوعها ستكون لها عواقب وخيمة على كل دول الجوار وليس دولة بعينها، وتعد دولة جنوب السودان إحدى الدول المتضررة من الصراع المسلح في السودان حيث تعتمد خمس من أصل عشر ولايات بجنوب السودان على سلع وبضائع منتجة في شمال السودان. (الجزيرة).

كذلك هناك تداعيات أمنية سوف تؤثر بشكل مباشر في مجمل الأوضاع الاقتصاديَّة والمعيشيَّة لمواطني جنوب السودان، حيث تشارك دولة جنوب السودان جمهورية السودان في أشياء كثيرة، على رأسها: الشريط الحدودي الطويل الذى يربط بين البلدين، كما يوجد بطول هذا الشريط الحدودي نسبة مقدرة من سكان هذين البلدين، ويشكل هذا الشريط خط الإمداد الاقتصادي للبلدين حيث توجد فيه حقول البترول ومزارع الصمغ العربي، وأكبر مشروعات لإنتاج المحاصيل الزراعية والثروة الحيوانيَّة خاصة الماشية، وسوف تتأثر في حال امتداد الحرب إليها، كما أن الصراع الحالي تسبب في غلق المجال الجوي الأعلى لجنوب السودان، أسوة بغلق الأجواء السودانيَّة في الشمال.

تداعيات الصراع في السودان على إثيوبيا:

لقد أدى الصراع الدائر في السودان إلى فرار عشرات الآلاف من السودانيين إلى بلدان مجاورة، مثل: إثيوبيا التي لا يزال مئات الآلاف من سكانها يعيشون في السودان هربًا من الحروب هناك، أيضًا بسبب إقليم تجراي مع آبي أحمد، وعلى الرغم من توقيع اتفاق سلام في نوفمبر 2022 م لوقف الحرب في إقليم تجراي الإثيوبي؛ إلا أن أكثر من مليون إثيوبي لا يزالون يعيشون في السودان، ويواجهون أزمات وتداعيات القتال الحالي في الخرطوم وعدد من مدن البلاد الأخرى. (الجزيرة).

وَحَل التقسيم وتبعاته الكارثية في انهيار الدولة:

لا شك أن الوضع الإنساني في السودان بات غير محتمل ولا يُطاق، وأصبح مأساويًّا بكل المقاييس وبمعنى الكلمة على المستوى الإنساني والاجتماعي والاقتصادي، وإن ما يحدث نتيجة الصراع قد أوصل البلاد لمرحلة الانهيار شبه الكامل والمجاعة.

ولا شك أن الخلافات السياسيَّة قد توقع السودان في وَحل التقسيم مرة أخرى، فالحل العسكري لن يُفضي لشيء إلا لتمديد الحرب وانتشارها أكثر في كل المناطق مما يزيد الوضع مأساويَّة، ومزيد من انتشار الأمراض والأوبئة والمجاعات، وعلى المجتمع الدولي التحرك بسرعة، وعدم اختيار الحياد في هذه الحرب وما تسببت به من انتهاكات كبيرة لحقوق الإنسان.

وبالأخير فإن هذا الصراع باتت عواقبه وخيمة على الإقليم ككلٍّ ومنطقة القرن الإفريقي، وبدت تطفو على السطح في معاناة السودانيين، ما بين لاجئ ونازح، فضلًا عن انعدام الأمن والاستقرار، كما أن الصراع خلق صعوبات اقتصاديَّة جمَّة وعنيفة للغاية لسكان العديد من المدن، لا سيما المناطق النائية والفقيرة، حيث تعطل تدفق السلع الغذائيَّة والأدويَّة، والتي كانت تصل في الأغلب من جِهة الشمال، ومن لا يموت من قصف كلا الطرفين يموت جوعًا أو مرضًا بعدما خرجت عشرات المستشفيات من الخدمة. (الجزيرة).

الخلاصة:

– لقد أدى الصراع الدائر في السودان بكل صوره إلى الانقسام بين أطياف الشعب الواحد واستمراره يمثل خطرًا داهمًا على البنية الاجتماعيَّة والسياسيَّة، وأيضًا من الناحية الديمغرافيَّة، كما يؤدي إلى مزيد من الفُرقة والضغينة بين أبناء الوطن.

– إن عدم إدراك القوى السياسيَّة والحزبيَّة وطرفي الصراع -وهو يبدو كذلك-، لرغبة القوى الكبرى في تقسيم جديد للسودان بعد فصل شماله عن جنوبه، هو سبب رئيس في استمرار هذا الصراع الذي يأخذ الدولة نحو حافة الهاوية، خصوصًا في تاريخه الحافل بالصراعات التاريخيَّة والحروب الأهليَّة التي تغذِّي هذه الفرْضِيَّة لدى الكثيرين.

– وغير مستبعد أن يؤدي الصراع وتسليح المدنيين إلى تفاقم الانقسامات الاجتماعيَّة، لا سيما الهجمات ذات الدوافع العرقيَّة في دارفور مثلًا، ما يعني أن الفشل في التوصل إلى حلٍّ سياسي عاجل سوف يُفضي إلى وضع كارثي ومماثل لما حدث في ليبيا تمامًا.

– بالطبع إن صمود قوات الدعم السريع أمام جيش مُنظَّمٍ يثير علامات استفهام، ما يعني التأكيد على دعمه من قوًى إقليميَّة ودوليَّة لا تريد مصلحة السودان الشقيق وعلى رأسهم: إثيوبيا وإسرائيل، وهذا ما ينبغي إدراكه من قبل السودانيين أنفسهم، ففهم المواطن والقوى السياسية هناك لطبيعة تلك المخططات، يعني الوصول إلى حلٍّ سريع؛ لأنه سيؤدي إلى تنازلات من جميع الأطراف.

– كذلك إن استمرار الصراع في السودان سيؤدي إلى حرب أهليَّة لا يُحمد عقباها، مما ستكون له تداعيات كارثيَّة وتربة خصبة مُهيئة للتقسيم، وتداعياته أيضًا على دول الجوار الستَّة ومنهم مصر، حيث الدولة الأكثر استهدافًا المحاصرة من كافة الحدود غربًا وشرقًا وجنوبًا، وأزمة الملاحة في البحر الأحمر لحصارها اقتصاديًّا وضرب حركة الملاحة في قناة السويس لخير دليل على تلك المخططات الخبيثة.

– على الجميع الانتباه لما يُحاك بالسودان، سيما في ظل التحول في دِفّة الصراع الحالي وبناء تحالفات جديدة للطرفين؛ الأمر الذي يزيد من مخاوف وجود دولة منقسمة، لكي تكون أكثر ضعفًا وهشاشةً، ويكفي انقسام الشمال عن الجنوب الذي تسبب في تمزّق ثرواتها وبِنيتها.

– بالأخير.. فإن العواقب ستكون وخيمة ليس على السودان فحسب، بل على الإقليم، حيث المزيد من تعاظم قوى الإرهاب والتطرف وتدفق السلاح العابر للحدود، وهو المنتشر الآن في منطقة الساحل الإفريقي، وبالتالي من السهل أن يتعاظم أيضًا في منطقة القرن الإفريقي.

المصادر:

– الجزيرة

– السياسة الدوليَّة

الأهرام

– رؤية الكاتب

التعليقات مغلقة.