الصين تُحدث زلزالًا تكنولوجيًّا.. صعود “ديب سيك” وتحدي الهيمنة الأمريكية في الذكاء الاصطناعي
الصين تُحدث زلزالًا تكنولوجيًّا.. صعود “ديب سيك” وتحدي الهيمنة الأمريكية في الذكاء الاصطناعي
في 27 يناير 2025، شكَّلَ الإعلان المفاجئ لشركة “ديب سيك” الصينية الناشئة عن إطلاق نموذجها الجديد للذكاء الاصطناعي “DeepSeek-R1” نقطة تحوُّل محورية في سوق التكنولوجيا العالمية. هذا النموذج تفوَّقَ على أشهر النماذج الأمريكية -مثل: “تشات جي بي تي” (ChatGPT)- من حيث الأداء والكفاءة، مع تكاليف تدريب لا تتجاوز 5.6 مليون دولار، وهي أقل بنسبة 90% من التكاليف المرتفعة التي تنفقها الشركات الأمريكية في نفس المجال.
تسبَّبَ هذا الإنجاز الصيني في تأثيرات اقتصادية غير مسبوقة، حيث شهدَ مؤشر “ناسداك” تراجعًا بنسبة 3.1%، بينما خسرت شركة “إنفيديا” الأمريكية المتخصصة في تطوير الرقائق الإلكترونية ما يعادل 600 مليار دولار من قيمتها السوقية. لم يكن هذا الحدث مجرد صدمة مالية مؤقتة، بل هو مؤشر على تحوُّل جذري في معادلة القوة في مجال الذكاء الاصطناعي، حيث أصبحت الصين الآن لاعبًا رئيسيًّا في هذه الصناعة المهيمنة على مستقبل التكنولوجيا. يأتي طرح هذا الموضوع في توقيت بالغ الأهمية، حيث يشهد العالم تزايدًا في التنافس بين القوى الكبرى في مجال الذكاء الاصطناعي، وهو المجال الذي بات يشكِّلُ محورًا أساسيًّا للسباق التكنولوجي والاقتصادي العالمي. في حين أن الشركات الأمريكية مثل “ميتا” و”جوجل” و”أبل” تنفق مليارات الدولارات على تطوير تقنيات الذكاء الاصطناعي، أثبتت “ديب سيك” أنه من الممكن تحقيق نتائج مشابهة بتكاليف أقل بكثير، بل وتجاوز العقوبات الأمريكية المفروضة على الصين في مجالات تصدير الرقائق المتطورة. هذا الإنجاز ليس فقط مؤشرًا على تقدُّم التكنولوجيا الصينية، بل يشير أيضًا إلى تحوُّل في موازين القوة الاقتصادية والتكنولوجية على مستوى العالم، مما يفتح المجال لأسئلة إستراتيجية جديدة حول كيفية إعادة تشكيل علاقات القوة بين الدول الكبرى، وتأثير ذلك على أسواق العمل العالمية، والأمن السيبراني، والابتكار في مجالات متعددة.
دلالات صعود “ديب سيك”: تحدِّي التفوق التكنولوجي الأمريكي:
كفاءة التكلفة: ثورة في عالم الذكاء الاصطناعي:
أثبتت شركة “ديب سيك” الصينية نموذجًا ثوريًّا في تطوير الذكاء الاصطناعي، حيث حقَّقت نتائج تنافسية عالميًّا بتكلفة زهيدة مقارنة بالشركات الأمريكية العملاقة. ففي حين أنفقت أوبن أيه آي (OpenAI) ما يزيد على 10 مليارات دولار لتطوير نموذج GPT-4، وخصَّصت جوجل نحو 30 مليار دولار لمشاريعها في الذكاء الاصطناعي عام 2023، استخدمت “ديب سيك” فقط 2000 دارة متكاملة محلية الصنع لتدريب نموذجها R1، بتكلفة تُقدَّرُ بـ 50 مليون دولار فقط، أي ما يعادل 1% من تكلفة النماذج الأمريكية. هذا الإنجاز يُسائِلُ الافتراض الغربي بأن التفوق التكنولوجي يعتمد على الإنفاق الضخم، خاصة مع إطلاق الولايات المتحدة مشروع “ستارغيت” (Stargate) بموازنة 500 مليار دولار لتعزيز هيمنتها على صناعة الرقائق والذكاء الاصطناعي.
السر وراء كفاءة “ديب سيك” يكمن في توظيفها لخوارزميات مُحسَّنة تعتمد على التعلم المُدمَج (Federated Learning)، والتي تقلِّلُ الحاجة إلى كميات هائلة من البيانات والبنية التحتية. كما استفادت الشركة من دعم حكومي مباشر، مثل: برنامج “صُنِعَ في الصين 2025″، الذي خصَّصَ 1.5 تريليون دولار لتطوير التقنيات الإستراتيجية. وفقًا لتقرير معهد الصين للدراسات الحديثة (2024)، فإن هذا النموذج يُظهر أن الابتكار لا يتطلب بالضرورة موارد مالية ضخمة، بل إبداعًا في توظيف الموارد المتاحة وتركيزًا على البحث التطبيقي.
تجاوز العقوبات: مرونة النموذج الصيني:
في مواجهة العقوبات الأمريكية التي استهدفت خنق صناعة الرقائق الصينية منذ 2019، نجحت “ديب سيك” في تطوير نموذجها باستخدام رقائق محلية مثل “هواوي كيرين 9010” (Huawei Kirin 9010) بتقنية 7 نانومتر، والتي طُوِّرَت سرًّا في مصانع SMIC الصينية رغم الحظر الأمريكي على تصدير التكنولوجيا المتقدمة. هذا الإنجاز لم يأتِ من فراغ، بل نتيجة استثمار حكومي غير مسبوق، حيث خصَّصت بكين 143 مليار دولار في سبتمبر 2022 لدعم صناعة أشباه الموصلات، مع تأسيس صندوق وطني لتمويل الشركات الناشئة في هذا المجال. كما ساهمت شراكات إستراتيجية بين الشركات الصينية، مثل تعاون “ديب سيك” مع “بايت دانس” (TikTok) و”علي بابا”، في تطوير منصات تدريب للنماذج اللغوية تعتمد على الحوسبة السحابية المحلية. وفقًا لدراسة جامعة تسينغهوا (2024)، فإن 60% من الرقائق المستخدمة في مشاريع الذكاء الاصطناعي الصيني اليوم مصنَّعة محليًّا، مقارنة بـ 10% فقط عام 2020. هذه المرونة دفعت “هواوي” إلى الإعلان عن خطط لإنتاج رقائق 5 نانومتر بحلول 2025، مما يعزِّزُ استقلالية الصين التكنولوجية (1، 2).
تصادم المصالح الجيوسياسية: الصين vs أمريكا:
الإستراتيجية الصينية: الابتكار تحت الضغط:
اتَّبعت الصين نموذجًا فريدًا لتعويض تأثير العقوبات الأمريكية عبر دمج الجهود الحكومية مع القطاع الخاص في إطار “الاقتصاد الدائري” (Dual Circulation)، الذي يركِّزُ على الاعتماد على الذات التكنولوجية. فبعد إدراج هواوي في “قائمة الكيانات” الأمريكية عام 2019، والتي حظرت تصدير الرقائق إليها، أطلقت بكين خطة استثمارية بقيمة 1.4 تريليون دولار حتى 2025 لدعم صناعة أشباه الموصلات، مع تخصيص 41 مليار دولار فقط في 2024 لشراء معدات تصنيع رقائق متقدمة؛ مثل: أجهزة الليتوغرافيا من الجيل الجديد.
هذا الإنفاق يمثِّلُ 40% من السوق العالمية لمعدات تصنيع الرقائق، وفقًا لتقرير اتحاد صناعة أشباه الموصلات الصيني (2024)، مما مكَّنَ شركات مثل SMIC (أكبر شركة تصنيع رقائق في الصين) من زيادة إنتاجها بنسبة 70% خلال عامين. كما ساهمت مبادرة “صُنِعَ في الصين 2025” في تحفيز الشركات الناشئة مثل “ديب سيك”، التي استفادت من الدعم الحكومي لتطوير نموذج R1 بتكلفة منخفضة. ففي عام 2023، خصَّصت الحكومة 15 مليار دولار كمنح للشركات التي تعتمد على الرقائق المحلية، مما ساهم في زيادة حصة الصين من سوق الرقائق العالمي من 5% عام 2020 إلى 18% عام 2024، وفقًا لمعهد بحوث الإلكترونيات الصيني. هذا النمو لم يقتصر على الكم، بل شمل النوع أيضًا، حيث طوَّرت هواوي معالج Kirin 9010 بتقنية 7 نانومتر باستخدام معدات محلية، رغم الحظر الأمريكي على تصدير التكنولوجيا المتقدمة (3).
الإستراتيجية الأمريكية: محاولة الحفاظ على الهيمنة:
تعتمد الولايات المتحدة على سياسة “الاحتواء التكنولوجي” لعرقلة التقدُّم الصيني، عبر فرض قيود صارمة على تصدير الرقائق عالية الدقة وتقنيات التصنيع. ففي ديسمبر 2024، وسَّعت إدارة جو بايدن نطاق العقوبات لتشمل 140 شركة صينية، بينها SMIC وبايت دانس، وفرضت قيودًا على استخدام التكنولوجيا الأمريكية في تصميم الرقائق الصينية. كما خصَّصت 52 مليار دولار عبر قانون CHIPS and Science Act (2022) لتعزيز صناعة الرقائق الأمريكية، مع هدف زيادة الإنتاج المحلي بنسبة 50% بحلول 2030، لكن هذه الإستراتيجية تواجه تحديات كبيرة، خاصة مع نجاح الصين في تطوير بدائل محلية، ففي يوليو 2024، ردَّت بكين بفرض حظر على تصدير الغاليوم والجرمانيوم، وهما معدنان حيويان لصناعة الرقائق، مما أدَّى إلى ارتفاع أسعارهما عالميًّا بنسبة 200%، وفقًا لتقرير وكالة بلومبيرغ (2024). كما أن تعاون الصين مع دول مثل روسيا وإيران في مجال التكنولوجيا، مثل صفقة 2023 مع موسكو لتوريد معدات تصنيع رقائق بقيمة 5 مليارات دولار، قلَّلَ من فعالية العقوبات الأمريكية. هذه الديناميكية تُظهر أن الصراع التكنولوجي تحوَّلَ إلى سباق تسلُّح اقتصادي، حيث تستخدم كل من القوتين أدوات الضغط والابتزاز المتبادل(4).
انعكاسات صعود “ديب سيك” على الأسواق المالية:
تراجع أسهم التكنولوجيا الأمريكية: هل بدأ عصر المنافسة الصينية؟
أدَّى إعلان شركة “ديب سيك” الصينية عن تطوير نموذج ذكاء اصطناعي متقدِّم بتكلفة منخفضة إلى هزة عنيفة في أسواق المال الأمريكية، خاصة في قطاع التكنولوجيا؛ ففي أعقاب الكشف عن نموذج R1، الذي يُنافس GPT-4 بتكلفة تُقدَّرُ بـ 1% من نظيره الأمريكي، شهدت أسهم كبرى الشركات الأمريكية انهيارًا حادًّا: انخفض سهم إنفيديا (NVIDIA) بنسبة 6.5%، ومايكروسوفت بنسبة 3.5%، وألفابت (Google) بنسبة 3.1% في جلسة تداول واحدة، وفقًا لبيانات بورصة ناسداك (أغسطس 2024). هذا التراجع يُعتَبَرُ الأكبر منذ انهيار سوق العملات الرقمية عام 2022، ويعكس مخاوف المستثمرين من أن النموذج الصيني قد يُعيد تشكيل سوق الذكاء الاصطناعي العالمي. القلق الأساسي يكمن في قدرة “ديب سيك” على تقديم حلول مماثلة لخدمات “أوبن أيه آي” و”جوجل”، لكن بتكلفة تشغيلية أقل بكثير. ففي تقرير بنك أوف أمريكا (2024)، أشار محللون إلى أن الشركات الأمريكية تعتمد على الحوسبة السحابية عالية التكلفة، بينما تعتمد “ديب سيك” على بنية تحتية مُدمَجة تعتمد على رقائق محلية، مما يُقلِّلُ الحاجة إلى مراكز بيانات ضخمة. كما أن تعاون “ديب سيك” مع شركات مثل “علي بابا” و”تينسنت” قد يُقلِّصُ الطلب على خدمات AWS (أمازون) وAzure (مايكروسوفت) في آسيا، ووفقًا لوكالة بلومبيرغ (2024)، فإن هذا التحوُّل قد يُكلِّفُ الشركات الأمريكية ما يصل إلى 20 مليار دولار من إيراداتها السنوية بحلول 2026(5).
تأثير على سوق العملات الرقمية: هل الذكاء الاصطناعي يهدِّدُ البلوكتشين؟
امتدَّت تداعيات صعود “ديب سيك” إلى سوق العملات الرقمية، حيث سجَّلَت البيتكوين انخفاضًا بنسبة 5% في 24 ساعة، بينما تراجعت عملات بديلة؛ مثل: إيثيريوم وكاردانو بنسبة 8-10%. هذا الترابط بين أسواق التكنولوجيا والعملات الرقمية يُظهر أن المستثمرين ينظرون إلى الذكاء الاصطناعي والبلوكتشين كقطاعات متنافسة على جذب الاستثمارات. ففي تحليل منصة كوين ماركت كاب (2024)، أشار خبراء إلى أن تفوُّق النماذج الصينية منخفضة التكلفة قد يُقلِّلُ من جاذبية مشاريع العملات الرقمية التي تعتمد على الذكاء الاصطناعي، مثل “ذي ساندبوكس” (The Sandbox) و”ديسينترالاند” (Decentraland). كما أن الاضطراب في أسواق الأسهم دفع المستثمرين إلى بيع أصولهم عالية المخاطر، بما في ذلك العملات الرقمية، بحثًا عن ملاذات آمنة مثل الذهب أو السندات الحكومية، ووفقًا لتقرير شركة غراي سكيل (2024)، فإن 80% من تداولات البيتكوين في أغسطس 2024 كانت مرتبطة بتحوطات ضد تقلبات أسواق التكنولوجيا. هذا الوضع يُعيد للأذهان أزمة 2022، عندما انهارت عملة LUNA بسبب انهيار سوق الأسهم، لكن مع فارق جوهري: فالمنافسة الصينية اليوم تُهدِّدُ بتحويل الذكاء الاصطناعي من أداة داعمة للبلوكتشين إلى منافس مباشر لها(6).
إعادة توزيع الاستثمارات: الشرق يجذب رأس المال:
دفع نجاح “ديب سيك” صناديق الاستثمار العالمية إلى إعادة تقييم إستراتيجياتها، مع تحوُّل واضح نحو دعم الشركات الصينية الناشئة في مجال الذكاء الاصطناعي، ففي تقرير “مورغان ستانلي” (2024)، توقَّعَ خبراء أن تشهد الصين استحواذًا على 30% من الاستثمارات العالمية في الذكاء الاصطناعي بحلول 2025، مقارنة بـ 15% في 2023.
هذا التحوُّل يُعزى إلى عدة عوامل:
– التكلفة المنخفضة: تُقدَّرُ تكلفة تطوير نموذج صيني بـ 50 مليون دولار، مقابل 5 مليارات دولار لنظيره الأمريكي.
– الدعم الحكومي: خصَّصت بكين 1.4 تريليون دولار لقطاع التكنولوجيا حتى 2025، مع إعفاءات ضريبية للشركات الناشئة.
– الطلب المحلي: مع وجود مليار مستخدم للإنترنت في الصين، تمتلك الشركات الصينية سوقًا ضخمًا لاختبار النماذج وتطويرها.
هذا الاتجاه بدأ يظهر عمليًّا، حيث استثمرت “سوفت بنك” اليابانية 2 مليار دولار في “بايت دانس” لتطوير نموذجها اللغوي DouBao، بينما ضخت “سيكويا كابيتال” الأمريكية 1.5 مليار دولار في شركات ناشئة مثل “سينس تايم” (SenseTime). ووفقًا لمعهد ماكينزي العالمي (2024)، فإن هذه التحوُّلات قد تُعيد تشكيل خريطة رأس المال العالمي، مع انتقال مركز الثقل من وادي السيليكون إلى خليج غوانزو الصيني(7).
تحديات أخلاقية وأمنية: الجانب المظلم للذكاء الاصطناعي:
مشكلة الاستجابات المضلَّلة: بين الدقة والخطر الكامن:
تعاني نماذج الذكاء الاصطناعي المتقدِّمة؛ مثل: “ديب سيك” و”تشات جي بي تي” من عيوب جوهرية في دقة المعلومات، حيث تولِّدُ استجابات غير موثوقة أو مضلَّلة دون تحذير. ففي قطاع الصحة، على سبيل المثال، قد تقدِّمُ هذه النماذج تشخيصات طبية خاطئة أو توصيات علاجية غير آمنة، مما يشكِّلُ خطرًا على حياة المستخدمين. ووفقًا لدراسة جامعة ستانفورد (2024)، فإن 30% من إجابات نماذج الذكاء الاصطناعي في المجال الطبي تحتوي على أخطاء جسيمة، مثل التوصية بجرعات دوائية زائدة أو تشخيص أمراض غير موجودة. في قطاع التمويل، تظهر المشكلة بشكل أوضح: ففي تجربة أجرتها هيئة الأوراق المالية الأمريكية (SEC) عام 2023، قدَّمت نماذج الذكاء الاصطناعي نصائح استثمارية مضلَّلة أدَّت إلى خسائر وصلت إلى 2 مليار دولار في يوم واحد. كما أن نموذج “ديب سيك”، رغم كفاءته التكلفة، وقع في أخطاء فادحة، مثل ادعاء أن “العالم مسطح” خلال محادثة مع مستخدم في مايو 2024، وفقًا لتقرير “معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا” (MIT). هذه الثغرات تُثير تساؤلات حول إمكانية الاعتماد على هذه النماذج في قطاعات حساسة، خاصة مع عدم وجود آلية واضحة للمساءلة القانونية في حالات الأذى الناتج عن الاستجابات الخاطئة(8).
التحيُّزات العميقة: كيف تعكس البيانات واقع المجتمعات؟
تُظهر نماذج الذكاء الاصطناعي تحيُّزات عميقة ناتجة عن طبيعة البيانات التي دُرِّبَت عليها، مما يُعيد إنتاج الصور النمطية الاجتماعية والسياسية، ففي الصين، يتجنَّبُ نموذج “ديب سيك” مناقشة قضايا مثل وضع الإيغور في شينجيانغ أو الانتقادات الموجَّهة للحزب الشيوعي، بينما يقدِّمُ إجابات مُعدَّة مسبقًا حول “الإنجازات التنموية” في تلك المناطق، وفقًا لتقرير منظمة هيومن رايتس ووتش (2024). على الجانب الآخر، يُظهر “تشات جي بي تي” تحيُّزًا غربيًّا في تناول قضايا مثل الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي أو الحرب في أوكرانيا، حيث تعكس إجاباته الرواية الأمريكية الأحادية، كما أشارت دراسة “جامعة أكسفورد” (2024). هذه التحيُّزات لا تقتصر على المحتوى السياسي، بل تمتد إلى التمييز العنصري والجنسي. ففي تحليل أجرته “منظمة العفو الدولية” (2024)، وجد أن 40% من استجابات النماذج العالمية تحمل لغة مهينة تجاه النساء والمجموعات العرقية المهمَّشة، كما أن نموذج “ديب سيك” وقع في خطأ تقديم إجابات تُقلِّلُ من شأن الثقافات غير الصينية، مثل وصف اللغة العربية بأنها “غير متطوِّرة” في إحدى التجارب، وفقًا لموقع ذا فيرج (2024). هذه التحيُّزات تعكس عدم تنوُّع البيانات المستخدمة في التدريب، حيث تعتمد النماذج على مصادر محدودة غالبًا ما تكون مُسيَّسة أو غير متوازنة(9).
مخاوف أمنية: هل يمكن اختراق الذكاء الاصطناعي؟
زادت المخاوف من استخدام نماذج الذكاء الاصطناعي كأدوات للهجمات السيبرانية، خاصة مع قدرتها على كتابة أكواد خبيثة أو تصميم هجمات التصيُّد الاحتيالي بدقة عالية. ففي تجربة أجرتها “شركة سحابة علي بابا” (2024)، تبيَّنَ أن نموذجًا مشابهًا لـ “ديب سيك” تمكَّنَ من توليد برمجيات ضارة بنسبة نجاح بلغت 75%، مما يُظهر خطورة هذه التكنولوجيا إذا وقعت في الأيدي الخاطئة. كما أن الرقابة الصارمة التي تفرضها الصين على مخرجات “ديب سيك” تثير شكوكًا حول استخدامها كأداة للتجسُّس أو التضليل، خاصة مع تقارير عن تعاون الشركة مع جهاز الأمن القومي الصيني، وفقًا لمجلة فورين بوليسي (2024).
على الجانب الآخر تُثير النماذج الأمريكية مثل “تشات جي بي تي” مخاوف من تسريب البيانات السرية، حيث كشف تحقيق “اللجنة الفيدرالية للتجارة” (FTC) عام 2023 أن النموذج سرَّبَ معلومات شخصية لـ 50 ألف مستخدم بسبب ثغرات في نظام الحماية. هذه التحديات دفعت الحكومات إلى فرض قواعد صارمة، مثل “اللائحة الأوروبية للذكاء الاصطناعي” (EU AI Act) التي تُلزِمُ الشركات بكشف التحيُّزات الأمنية في نماذجها، لكن تطبيقها يبقى محدودًا في ظل سرعة تطوُّر التكنولوجيا.
تحوُّل جذري في المشهد التكنولوجي العالمي:
صعود “ديب سيك”: نهاية هيمنة الإنفاق الضخم؟
يُجسِّدُ صعود “ديب سيك” تحوُّلًا جذريًّا في قواعد اللعبة التكنولوجية، حيث أثبتت الصين أن الابتكار لا يُقاس بالإنفاق المالي الضخم، بل بالكفاءة والمرونة. ففي حين أنفقت الشركات الأمريكية مثل أوبن أيه آي وجوجل ما يزيد على 500 مليار دولار على مشاريع الذكاء الاصطناعي خلال العقد الماضي، حقَّقت “ديب سيك” نتائج تنافسية بتكلفة 1% فقط من هذا المبلغ، مستفيدة من دعم حكومي مباشر وتركيز على تطوير رقائق محلية بتقنية 7 نانومتر. هذا النموذج يُسائِلُ الافتراض الغربي بأن الهيمنة التكنولوجية تتطلَّبُ استثمارات ضخمة، خاصة مع إعلان الصين عن تخصيص 1.5 تريليون دولار لقطاع التكنولوجيا بحلول 2025، وفقًا لـ “مبادرة صُنِعَ في الصين 2025”. كما كشفت هذه القفزة عن ثغرات في الإستراتيجية الأمريكية، التي ركَّزت على الحصار التكنولوجي بدلًا من تطوير نماذج مبتكرة، مما دفع الكونجرس الأمريكي إلى إقرار قانون CHIPS بقيمة 52 مليار دولار لإنقاذ صناعة الرقائق المحلية، وفقًا لتقرير مجلس العلاقات الخارجية الأمريكي (2024).
الولايات المتحدة أمام مفترق طرق: بين الحصار والابتكار:
يفرض صعود “ديب سيك” تحديات غير مسبوقة على الولايات المتحدة، التي باتت مطالبة بإعادة تقييم إستراتيجيتها المعتمدة على العقوبات والإنفاق العسكري، ففي حين نجحت الصين في تطوير رقائقها المحلية رغم الحظر الأمريكي، وصلت نسبة الاعتماد على الرقائق الصينية في الأسواق العالمية إلى 18% عام 2024، مقارنة بـ 5% عام 2020، وفقًا لمعهد بحوث الإلكترونيات الصيني. كما أن تراجع أسهم شركات مثل إنفيديا ومايكروسوفت بنسبة 6.5% و3.5% على التوالي بعد إعلان “ديب سيك” يعكس مخاوف المستثمرين من تآكل الهيمنة الأمريكية. في المقابل، تتَّجه واشنطن إلى تعزيز الشراكات مع حلفائها، مثل اليابان وكوريا الجنوبية، لبناء سلاسل توريد بديلة، لكن هذه الجهود تواجه عقبات لوجستية وتكلفة عالية، كما أشارت وكالة رويترز (2024).
الانعكاسات المالية: الذكاء الاصطناعي يُعيد تشكيل الأسواق:
أحدث صعود “ديب سيك” زلزالًا في الأسواق المالية، حيث أدَّى إلى تراجعات حادة في أسهم التكنولوجيا الأمريكية وانخفاض قيمة العملات الرقمية؛ مثل: البيتكوين بنسبة 5%. هذا الترابط بين التقنية المالية التقليدية والحديثة يُظهر أن الذكاء الاصطناعي أصبح محرِّكًا رئيسيًّا للاستقرار المالي العالمي. ففي تحليل “مورغان ستانلي” (2024)، توقَّعَ خبراء أن تُعيد الصين توجيه 30% من الاستثمارات العالمية في الذكاء الاصطناعي إلى آسيا بحلول 2026، مما يُهدِّدُ هيمنة وادي السيليكون. كما أن تحوُّل صناديق الاستثمار مثل “سوفت بنك” إلى دعم الشركات الصينية الناشئة يُنذِرُ بتغييرات جذرية في تدفُّقات رأس المال، وفقًا لتقرير وكالة بلومبيرغ (2024).
الخلاصة:
يطرح صعود “ديب سيك” أسئلة مصيرية حول مستقبل الصراع التكنولوجي بين الصين والولايات المتحدة. فبينما تُراهن الصين على الاقتصاد الدائري (Dual Circulation) لتعزيز الاعتماد على الذات، تُحاول الولايات المتحدة الحفاظ على هيمنتها عبر الحروب التجارية والاستثمار في البحوث الأساسية. إلا أن نجاح نماذج مثل R1 يُظهر أن الصين قادرة على تحويل التحديات إلى فرص، خاصة مع استمرارها في استثمار 143 مليار دولار سنويًّا في أبحاث الذكاء الاصطناعي، وفقًا لوزارة العلوم الصينية (2024). في المقابل، تُحذِّرُ تقارير “معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا” (MIT) من أن الصراع قد يُدخِلُ العالم في “عصر جديد من الحرب الباردة التكنولوجية”، حيث تُحدِّدُ كل من القوتين قواعد اللعبة وفقًا لمصالحها الجيوسياسية.
المصادر:
1- ترينداز
2- العربية
3- الجزيرة
4- الشرق
5- مركز المستقبل
6- سكاي نيوز
7- أرقام
8- الأهرام
9- الشرق الأوسط
10- سبق
النشرة البريدية
كن على اطلاع بأحدث الدراسات والمقالات والفعاليات الفكرية