الأثر الاقتصادي لزيادة التعريفات الجمركية المقترحة من ترامب على التجارة العالمية
الأثر الاقتصادي لزيادة التعريفات الجمركية المقترحة من ترامب على التجارة العالمية
خلال فترة رئاسة دونالد ترامب، شهدت السياسة التجارية للولايات المتحدة تحوُّلاً كبيرًا تمثَّل في فرض تعريفات جمركية مرتفعة على الواردات، خاصة القادمة من الصين والاتحاد الأوروبي.
ووفقًا للإدارة الأمريكية آنذاك، هدفت هذه السياسة إلى حماية الصناعات المحلية، تقليل العجز التجاري، وتحقيق استقلالية اقتصادية، ومع أنَّ التعريفات الجمركية تُعتبر أداة كلاسيكية في السياسات الاقتصادية، فإنَّ تطبيقها على نطاق واسع أدَّى إلى اضطرابات كبيرة في الاقتصاد العالمي، مما جعل هذا الموضوع محطَّ اهتمام الدول والشركات والمستهلكين على حدٍّ سواء.
التعرفة الجمركية:
تَفرض الحكومات التعريفات الجمركية إمَّا لزيادة الإيرادات الضريبية أو حماية قطاعاتها وصناعاتها من المنافسة الأجنبية، وتُشجِّع التعريفة الجمركية على الصناعة المحلية بشكلٍ غير مباشر، وذلك بسبب ارتفاع تكلفة بعض المنتجات المستوردة بالمقارنة مع مثيلاتها من المنتجات في داخل البلد؛ كما تُعدُّ التعريفة الجمركية أداةً شائعة تستخدمها الحكومات لدعم قطاعات معيَّنة والحفاظ على العمالة المحلية، وتَستخدم بعض الدول التعريفة الجمركية كوسيلة للضغط وإجبار دولة أخرى للامتثال لمطالبها، من خلال رفع الرسوم على المنتجات والخدمات الأساسية.
اقتراح التعريفة الجمركية وملابساتها:
تتمثَّل خطة ترامب في تنفيذ تعريفات جمركية بنسبة 25% على جميع المنتجات القادمة من المكسيك وكندا، اعتبارًا من أوَّل يوم في ولايته، إلى جانب زيادة بنسبة 10% على الواردات الصينية. هذه الخطوة تُمثِّل تصعيدًا حادًّا للموقف الحمائي التجاري الذي اتَّبعه خلال فترة رئاسته الأولى.
وقد استند ترامب في تبرير هذه التعريفات إلى مكافحة الهجرة غير القانونية والجريمة وتهريب المخدِّرات، خصوصًا الفنتانيل.
ومع ذلك، يعتقد المنتقدون أنَّ الأثر الرئيسي لهذه التعريفات سيكون اقتصاديًّا أكثر من كونه جيوسياسيًّا، حيث من المحتمل أن تؤثِّر هذه السياسات على كلِّ شيء من أسعار السلع الاستهلاكية إلى أسواق العمل. وقد أكَّد ترامب في منشوراته على منصَّته الاجتماعية “تروث سوشال” أنَّ هذه التعريفات ستظلُّ سارية حتى يتمَّ وقف ما وصفه بـ “الغزو” عبر الحدود، سواء كان بشريًّا أو متعلِّقًا بالمخدِّرات. ومع ذلك، فإنَّ الآثار طويلة المدى لهذه الزيادات في التعريفات أكثر تعقيدًا من مجرَّد معالجة قضايا الهجرة أو تهريب المخدِّرات(1).
أهداف متعدِّدة للتعريفات الجمركية:
يعكس قرار الرئيس الأمريكي المنتخب بفرض تعريفات جمركية على الواردات الأمريكية من الصين وكندا والمكسيك، جملة من الدوافع الاقتصادية والأمنية والسياسية، يتمثَّل أبرزها في مواجهة العجز التجاري، حيث يشكِّل الخلل التجاري الكبير مع دول مثل الصين والمكسيك إحدى أكبر القضايا التي يسعى ترامب لمعالجتها.
ويرى ترامب أنَّ تقليص العجز التجاري سيعزِّز استقرار ومكانة الاقتصاد الأمريكي، فمع فرض تعريفات جمركية مرتفعة على الواردات القادمة من هذه الدول، يمكن تحفيز الشركات الأمريكية لتصنيع منتجاتها داخل الولايات المتحدة؛ ومن ثمَّ تحقيق مكاسب اقتصادية لا تقتصر فقط على خفض الواردات وإنَّما تنشيط القطاعات الصناعية وتوفير مزيد من فرص العمل. وتشكِّل هذه السياسات جزءًا من الوفاء بوعود ترامب الانتخابية لإنعاش الصناعات التقليدية المتضرِّرة من سياسة الانفتاح التجاري مثل التعدين والصلب. ويعتبر ترامب أنَّ تعزيز الإنتاج المحلِّي قضية مركزية تُسهم في زيادة الدعم الشعبي له بالولايات المعتمدة على الصناعات التحويلية مثل بنسلفانيا وأوهايو، والتي شهدت زيادة طفيفة في الوظائف خلال فترة رئاسته السابقة.
ومع ذلك لا يزال العجز التجاري السلعي الأمريكي مع الصين كبيرًا، رغم انخفاضه في السنوات الخمس الأخيرة، بالغًا قرابة 270 مليار دولار في عام 2024، وفقًا لبيانات مكتب الإحصاء الأمريكي، ويعتقد ترامب أنَّ التعريفات الجمركية المرتفعة يمكن أن تُقلِّل هذا العجز لحدٍّ كبير، لكنه يواجه تحدِّيًا في تحقيق ذلك دون الإضرار بالمستهلكين والشركات التي تعتمد على الواردات. ولا تهدف سياسة الحمائية التجارية فقط إلى تحقيق مكاسب اقتصادية، بل تُستخدم كأداة ضغط سياسي من قبل ترامب.
فمع الصين يسعى الأوَّل لمعاقبة بكين على ما يعتبره ممارسات تجارية غير عادلة مثل سرقة الملكية الفكرية والتلاعب بالعملة المحلِّية (اليوان الصيني). أمَّا مع المكسيك، فإنَّه يربط العجز التجاري بتفاقم تيَّارات الهجرة غير الشرعية القادمة من الأولى، ومن ثمَّ يستخدم التعريفات كوسيلة ضغط من أجل إجبار الدولتين للتعاون مع الإدارة الأمريكية الجديدة في هذه القضايا. ويُخطِّط ترامب لاستغلال التعريفات الجمركية أيضًا كورقة ضغط لإعادة التفاوض على الاتفاقيات التجارية -الثنائية أو متعدِّدة الأطراف- لصالح الولايات المتحدة، فمن خلال فرض تعريفات مرتفعة، يمكنه دفع الدول الشريكة لتقديم تنازلات وضمان شروط تجارية أكثر ملاءمة للاقتصاد الأمريكي؛ مثل هذه الإستراتيجية تمَّ اختبارها خلال مفاوضات تعديل اتفاقية “نافتا”، حيث استطاع ترامب فرض شروط جديدة على المكسيك وكندا؛ ممَّا أدَّى إلى توقيع اتفاقية التجارة الحرَّة الجديدة “USMCA” في عام 2020، ويُظهر ذلك كيف يمكن للسياسات الجمركية أن تكون وسيلة ضغط لتحقيق أهداف سياسية وتجارية أوسع(2).
الأثر المباشر على الاقتصاد الأمريكي:
حماية الصناعات المحلِّية:
أبرز الأهداف المعلنة لزيادة التعريفات الجمركية هو دعم الصناعات المحلِّية التي تعاني من منافسة غير عادلة من الواردات الرخيصة. قطاعا الصلب والألمنيوم كانا من أبرز المستفيدين، حيث ساهمت التعريفات في تقليل المنافسة الأجنبية وتعزيز الإنتاج المحلِّي.
زيادة التكاليف على المستهلكين:
لكن الجانب السلبي لهذا الدعم كان ارتفاع أسعار السلع المستوردة، وهو ما انعكس مباشرة على المستهلكين. منتجات مثل الإلكترونيات والسيارات شهدت زيادات ملحوظة في الأسعار، ممَّا أضعف القوة الشرائية للأسر الأمريكية.
ردود فعل الشركات الأمريكية:
الشركات الأمريكية واجهت تحدِّيات كبرى نتيجة ارتفاع تكاليف الإنتاج. نقل خطوط الإنتاج إلى دول أخرى ذات تعريفات أقل أو تقليل العمالة كانت من أبرز الحلول التي لجأت إليها تلك الشركات(3).
الأثر على الشركاء التجاريين للولايات المتحدة:
الصين:
الصين كانت الهدف الرئيسي للتعريفات الجمركية، حيث تأثَّرت صادراتها إلى الولايات المتحدة بشكل كبير؛ خاصة في مجالات التكنولوجيا والمنتجات الصناعية. ويعتمد اقتصاد الصين بشكل متزايد على الصادرات، ممَّا يجعله أكثر عرضة لتحدِّيات تجارية جديدة من الرئيس الأمريكي المنتخب، دونالد ترامب؛ كما شهدت الصادرات الصينية إلى العالم نموًّا بنسبة 5.9% العام الماضي مقارنة بالعام السابق، حيث بلغت قيمتها 3.6 تريليون دولار، وفقًا للبيانات الصادرة يوم الاثنين. وتشير هذه البيانات إلى أنَّ التجارة قد تشكِّل نحو خمس النمو الاقتصادي المتوقَّع للصين بنسبة 5% خلال هذا العام، بحسب تقرير لصحيفة “وول ستريت جورنال” اطَّلعت عليه “العربية Business”، باستثناء عام 2021؛ الذي شهد طفرة في الطلب العالمي على الأجهزة المنزلية والمعدات الرياضية وأجهزة الكمبيوتر المصنَّعة في الصين خلال فترات الإغلاق بسبب جائحة كوفيد – 19، ستكون مساهمة التجارة في نمو الاقتصاد الصيني هي الأكبر منذ عام 2006، عندما كانت الصادرات الصينية تزدهر في أعقاب انضمام الصين إلى منظمة التجارة العالمية في عام 2001. تُعكس زيادة الاعتماد على الصادرات في دفع عجلة النمو الاقتصادي تحدِّيات الاقتصاد الصيني المتمثِّلة في أزمة ممتدة في قطاع العقارات وضعف إنفاق المستهلكين.
استجابة لهذه التحدِّيات، ولتحقيق الطموحات طويلة الأجل في تحويل الصين إلى قوة تكنولوجية عظمى، قام الرئيس الصيني شي جين بينغ بضخ استثمارات ضخمة في المصانع الصينية. وأدَّى ذلك إلى زيادة هائلة في القدرات الصناعية، وتراجع الأسعار، وارتفاع كبير في الصادرات، بما في ذلك الصلب، الكيماويات، السيارات، والآلات. بلغ فائض الصادرات على الواردات في عام 2024 مستوىً قياسيًّا قدره 992 مليار دولار، ممَّا لا يُعكس فقط انتعاش الصادرات، ولكن انخفاض الطلب الصيني على السلع والخدمات العالمية أيضًا.
الصراع التجاري مع الولايات المتحدة:
ارتفعت صادرات الصين إلى الولايات المتحدة بنسبة 4.9% لتصل إلى 525 مليار دولار، رغم الرسوم الجمركية التي فُرضت خلال فترة ترامب الأولى وتمَّ تمديدها في بعض الحالات خلال إدارة بايدن. وعد ترامب، في حملته الانتخابية، بزيادة الرسوم الجمركية على جميع الواردات الصينية إلى 60%، كجزء من سلسلة إجراءات تستهدف تقليص العجز التجاري الأمريكي وتحقيق أهداف سياسية أخرى.
تحدِّيات القطاع الصناعي الصيني:
تواجه الشركات الصينية صعوبات أكبر الآن مقارنة بما كانت عليه قبل خمس سنوات لمواجهة الرسوم الجمركية المتزايدة، إذ أدَّى ضعف الإنفاق المحلِّي إلى انخفاض أسعار السلع المصنَّعة، ممَّا ضغط على هوامش أرباح الشركات. قد تؤدِّي زيادة الرسوم الجمركية الأمريكية إلى انخفاض الناتج المحلِّي الإجمالي الصيني بنسبة تتراوح بين 0.5% و2.5% في العام التالي لفرضها، حسب شدَّة الردِّ الصيني. ومع تصاعد الصادرات الصينية، ازداد ردُّ الفعل السلبي من الدول الأخرى. إذ فرض الاتحاد الأوروبي، في أكتوبر / تشرين الأوَّل الماضي، رسومًا جمركية تصل إلى 45% على السيارات الكهربائية الصينية، وفرضت إدارة بايدن رسومًا بنسبة 100% على السيارات الكهربائية المستوردة من الصين. تأمل بكين في تعويض تداعيات الرسوم الأمريكية من خلال زيادة صادراتها إلى أسواق أخرى، مدعومة بتخفيضات مدروسة لقيمة عملتها. ومع ذلك، يشكِّل خطر تصاعد الصراع التجاري مع الدول الأخرى تحدِّيًا كبيرًا أمام إستراتيجيات بكين لدعم النمو الاقتصادي.
اتَّخذت بكين خطوات جريئة لتعزيز اقتصادها المحلِّي، بما في ذلك تخفيف القيود على شراء المنازل، وتحفيز سوق الأسهم، وتقديم خصومات للمستهلكين الذين يستبدلون السيارات والأجهزة المنزلية القديمة بأخرى جديدة. كما يجري تنفيذ برنامج لتخفيف أعباء التمويل على الحكومات المحلِّية المثقلة بالديون.
من المتوقَّع أن تعلن بكين عن دعم مالي جديد للاقتصاد خلال انعقاد المؤتمر الوطني الشعبي في مارس 2025 المقبل. ورغم المخاوف من الاستثمار المفرط وانخفاض الأسعار، لا تظهر القيادة الصينية أيَّ نية للتخلِّي عن تركيزها على التصنيع كمحرِّك أساسي للاقتصاد، على الرغم من المخاوف بشأن الإفراط في الاستثمار وهبوط الأسعار.
وبالنسبة لبعض خبراء الاقتصاد، فإنَّ السؤال على المدى الطويل هو ما إذا كان الاقتصاد العالمي قادرًا على دعم هذه الرؤية. وقال ستيفان أنغريك، كبير الاقتصاديين في “Moody’s Analytics” إنَّ بقية العالم لا يستطيع استيعاب جميع المنتجات التي تُصنِّعها الصين. وردَّت الصين بفرض تعريفات مضادة والبحث عن أسواق بديلة، ممَّا أدَّى إلى اضطراب الاقتصاد الصيني في بعض القطاعات.
الصين تردُّ على تهديدات ترامب بفرض تعريفات جمركية:
أعربت الصين عن رفضها لتهديدات الرئيس الأمريكي المنتخب دونالد ترامب بفرض تعريفات جمركية إضافية على الواردات الصينية، متهمة إيَّاه باستخدام أزمة مخدِّر الفنتانيل كذريعة لتصعيد النزاع التجاري مع بكين. وفي مقالات افتتاحية للصحف الصادرة صباح اليوم الأربعاء، رفضت صحف رسمية صينية من بينها “تشاينا ديلي” و”جلوبال تايمز” مبرِّرات ترامب للتعريفات الجديدة، التي ستضيف 10% إضافية على الرسوم الجمركية الحالية. ووصفت الصحف سياسات ترامب بأنَّها محاولة لإلقاء اللوم على الصين في أزمة الفنتانيل والأزمات الاقتصادية الأمريكية، وأكَّدت أنَّ المشكلة الحقيقية تكمن في الداخل الأمريكي، داعية واشنطن للتخلِّي عن “تسييس” القضايا الاقتصادية واستخدام التعريفات كأداة ضغط سياسي.
وأشارت الصحيفتان إلى أنَّ التعريفات التي تعهَّد ترامب بفرضها عند تولِّيه منصبه في 20 يناير، قد تزيد من توتُّر التجارة السنوية بين البلدين البالغة 400 مليار دولار، بالإضافة إلى سلاسل التوريد الأوسع التي تربط السلع الصينية بالمستهلكين الأمريكيين. وقد أثارت تهديدات ترامب بشأن التعريفات الجمركية قلق المجمَّع الصناعي في الصين، حيث بدأ الاقتصاديون في خفض توقُّعات النمو لأكبر اقتصاد في العالم بعد الولايات المتحدة.
وقام محلِّلون من وكالة “إس آند بي جلوبال” بمراجعة توقُّعاتهم للنمو الاقتصادي في الصين لعامي 2025 و2026، مشيرين إلى التأثير المحتمل لهذه التعريفات. وتتوقَّع الوكالة الآن تباطؤ نمو الناتج المحلِّي الإجمالي الصيني إلى 4.1% في عام 2025 و3.8% في عام 2026، بانخفاض 0.2 و0.7 نقطة مئوية على التوالي. وفي مقال افتتاحي لـ”تشاينا ديلي”، انتقدت الصحيفة بشدَّة خطاب ترامب، متهمة الولايات المتحدة بإلقاء اللوم على الصين في معركتها ضدَّ انتشار الفنتانيل في الولايات المتحدة.
وقالت الصحيفة: “إلقاء اللوم على الآخرين لن ينهي أزمة المخدِّرات في الولايات المتحدة”، مضيفة أنَّ جذور أزمة الفنتانيل تقع بالكامل داخل الولايات المتحدة نفسها. وأضافت: “العالم يرى بوضوح أنَّ السبب الرئيسي لأزمة الفنتانيل في الولايات المتحدة يكمن في الداخل”. وبنبرة مماثلة، حذَّرت صحيفة “جلوبال تايمز” واشنطن من أن تأخذ تعاون الصين في جهود مكافحة المخدِّرات كأمر مسلَّم به.
وقالت الصحيفة: “إذا استمرَّت الولايات المتحدة في تسييس القضايا الاقتصادية والتجارية من خلال استخدام التعريفات الجمركية كسلاح، فلن يكون هناك طرف رابح”.
وأكَّدت أنَّ ترامب طالما كان يلقي باللوم على الصين باعتبارها المصدر الرئيسي للمكوِّنات الكيميائية التي تستخدمها الكارتلات المكسيكية لتصنيع الفنتانيل، ما أسهم في أزمة الأفيون المدمِّرة في الولايات المتحدة.
وفي خطابه يوم 25 نوفمبر، أعلن ترامب أيضًا خططًا لفرض تعريفات جمركية بنسبة 25% على الواردات من المكسيك وكندا ما لم يتمَّ التعامل مع قضايا المخدِّرات والمهاجرين العابرين للحدود. وعلى الرغم من تهديدات التعريفات الجمركية، أشار لويس كويجس، كبير الاقتصاديين الآسيويين في “إس آند بي جلوبال”، إلى أنَّ “المخاطر في هذا المجال مرتفعة”، حيث لا يزال من غير الواضح إلى أيِّ مدًى سيذهب ترامب في فرض تعريفاته المقترحة. ومع تصاعد التوتُّر التجاري بين القوتين الاقتصاديتين، يبدو أنَّ الآفاق الاقتصادية العالمية أصبحت أكثر هشاشة. وأكَّد خبراء اقتصاديون أنَّه حتى في داخل الولايات المتحدة، من المرجَّح أن تؤدِّي هذه التعريفات الجمركية إلى ارتفاع أسعار السلع اليومية.
بالأرقام، القطاعات الصينية الأكثر عرضة للتعريفات الجمركية:
بلغ إجمالي واردات أمريكا من الأثاث 32.4 مليار دولار في عام 2023، استحوذت الصين -أكبر الدول المُصدِّرة للأثاث على مستوى العالم- على 29% منها. وفي حين تُنتج أمريكا ما يتراوح بين 30% و40% من احتياجاتها من الأثاث محلِّيًّا، لكنَّها تستورد ما يصل إلى 50% من المواد الخام التي تدخل في تصنيعه؛ مثل: الأخشاب، والبراغي، والأقمشة، والمفصلات.
قال “شانون ويليامز” الرئيسة التنفيذية لجمعية تأثيث المنازل في تصريح لشبكة “سي إن بي سي”: تجار التجزئة في هذا القطاع قد يضطرُّون لنقل سلاسل التوريد إلى دول أخرى بعيدًا عن الصين لأنَّهم لن يستطيعوا تحمُّل تعريفة جمركية بنسبة 60%. تُعدُّ فيتنام وجهة محتملة لهذا التحوُّل في حركة تجارة الأثاث بين الصين والولايات المتحدة، إذ استوردت أمريكا العام الماضي 26.5% من الأثاث من فيتنام، التي فرَّ إليها العديد من الشركات الصينية خلال ولاية “ترامب” الأولى لتجنُّب الرسوم الجمركية التي فرضها آنذاك. لكن هذا الخيار لا يزال أكثر تكلفة مقارنة بالوضع الحالي قبل تطبيق أيِّ رسوم، فقد تواجه تعريفة جمركية شاملة تتراوح بين 10% و20% هدَّد “ترامب” بفرضها على كافة الواردات. هناك سلع أخرى قد تتأثَّر أبرزها لعب الأطفال والأحذية، إذ تستورد الولايات المتحدة قرابة 80% من لعب الأطفال من الصين.
وتشير التقديرات إلى أنَّ أسعارها قد ترتفع بما يصل إلى 56% بسبب التعريفات الجمركية المقترحة. وعلاوة على ذلك، تُصنِّع شركة “ماتيل” المالكة لعلامة “باربي” التجارية قرابة 50% من دمية الأطفال الشهيرة في الصين، وبحسب جمعية الألعاب الأمريكية، قد يؤدِّي ارتفاع أسعار الألعاب بسبب التعريفات الجمركية الآباء إلى شراء بدائل أقل تكلفة عبر الإنترنت، ومن المحتمل ألا تكون هذه البدائل متوافقة مع المعايير الأمريكية فيما يتعلَّق بصحة الأطفال.
واعتمدت أمريكا على الصين في استيراد قرابة 37% من احتياجات السوق المحلِّية من الأحذية خلال عام 2023، يليها فيتنام بحوالي 30%، وإيطاليا وإندونيسيا بنحو 9% و8% على الترتيب، ووفق تقديرات لجنة التجارة الدولية الأمريكية، تستورد الولايات المتحدة قرابة 100% من الأحذية من الخارج.
الاتحاد الأوروبي:
الدول الأوروبية، لا سيَّما ألمانيا وفرنسا، شهدت انخفاضًا في صادراتها إلى الولايات المتحدة. وردُّ الاتحاد الأوروبي كان بمفاوضات لتخفيف التوتُّر، لكنه لم يتردَّد في فرض تعريفات مضادة لحماية مصالحه التجارية. وكندا والمكسيك، وهما شريكان تجاريان رئيسيان للولايات المتحدة، واجهتا تحدِّيات مشابهة، كما تأثَّرت اليابان بشكل أقل نتيجة لمرونة اقتصادها وتنويع أسواقها(4).
بالأرقام، القطاعات الكندية الأكثر عرضة للتعريفات الجمركية:
جاءت السيارات في المرتبة الثانية بعد النفط الخام كأكثر السلع التي صدَّرتها كندا بصفة عامة في عام 2022، بقيمة بلغت 27 مليار دولار آنذاك. وتستحوذ الولايات المتحدة على معظم صادرات النفط الكندية بخصم سعري مقارنة بخام غرب تكساس، ومن المتوقَّع أن تتأثَّر شركات السيارات الأمريكية بالرسوم الجمركية المقترح فرضها على الجارة الشمالية؛ إذ أنتجت أكبر خمس شركات لصناعة السيارات على مستوى العالم -فورد وجنرال موتورز وستيلانتس وتويوتا وهوندا- أكثر من مليون ونصف مركبة خفيفة في مقاطعة أونتاريو الكندية وحدها العام الماضي، وكان معظم هذا الإنتاج موجَّهًا للسوق الأمريكية.
وعلى صعيد آخر: تُصدِّر كندا حاصلات زراعية بنحو 40.5 مليار دولار لأمريكا سنويًّا، منها 1.7 مليار دولار من البطاطس المجمَّدة المُخصَّصة للقلي. وتُنتج شركة “ماكين فودز” رُبع بطاطس القلي على مستوى العالم، وتمتلك 11 مصنعًا في أمريكا، وسبعة أخرى في كندا، وبهذا تُهدِّد الرسوم الجمركية الأمريكية باضطراب أعمال الشركة، خاصة في ظلِّ ارتفاع تكاليف المعيشة في الوقت الراهن، وزيادة حساسية المستهلك الأمريكي لتغيُّرات أسعار منتجات البقالة.
بالأرقام، القطاعات المكسيكية الأكثر عرضة للتعريفات الجمركية:
أصبح الأفوكادو أحد المنتجات الزراعية المكسيكية المفضَّلة للمستهلك الأمريكي على مدار العقد الماضي، بينما توسَّعت شركات السيارات الأمريكية في إقامة المصانع والإنتاج بالمكسيك. وتُعدُّ المكسيك مصدرًا لحوالي 90% من الأفوكادو المستهلك في الولايات المتحدة بحسب تقديرات وزارة الزراعة الأمريكية، وتُعتبر واحدة من دول قليلة على مستوى العالم قادرة على إنتاج الأفوكادو طوال السنة. وباتت لدى كلِّ شركة سيارات رئيسية بالسوق الأمريكية مصنعًا واحدًا -على الأقل- في المكسيك، بما في ذلك أكبر ست شركات التي استحوذت على أكثر من 70% من المبيعات في الولايات المتحدة عام 2024.
وترتبط صناعة السيارات في كلتا الدولتين بعلاقات تبادلية وطيدة ومعقَّدة؛ إذ تستورد المكسيك 49.4% من المكوِّنات التي تحتاجها من الولايات المتحدة، بينما تُصدِّر المكسيك 86.9% من المكوِّنات التي تُنتجها إلى أمريكا. وتشير تقديرات “ويلز فارجو” إلى أنَّ تنفيذ “ترامب” تهديده بفرض رسوم إضافية بنسبة 25% على الواردات المكسيكية سوف يُعرِّض معظم الأرباح المعدَّلة لشركات “جنرال موتورز” و”فورد” و”ستيلانتس” للخطر، بينما ردَّت رئيسة المكسيك كلوديا شينباوم على تلك التهديدات بأنَّها ستتَّخذ إجراءات انتقامية ضدَّ الواردات الأمريكية، مشيرة إلى أنَّ التعريفات الجمركية لن تُعالج الأسباب الجذرية لـ”ظاهرة الهجرة” أو أزمة المخدِّرات في الولايات المتحدة.
بالإضافة إلى أنَّها ستلحق ضررًا كبيرًا بالاقتصاد المكسيكي الذي يعتمد على التصدير، ما قد يؤدِّي إلى تخفيض التصنيف الائتماني السيادي وتراجع الاستثمار الأجنبي المباشر، فضلاً عن تأثير ذلك على العلاقات التجارية بين الولايات المتحدة والمكسيك، أكبر شريك تجاري لواشنطن.
الأثر على التجارة العالمية:
تباطؤ النمو الاقتصادي العالمي:
وفقًا لتقارير منظَّمات دولية مثل صندوق النقد الدولي، ساهمت سياسات ترامب التجارية في إبطاء النمو العالمي بنسب ملحوظة، نتيجة للتوترات التجارية وتعطُّل التدفُّقات الاستثمارية.
اضطراب سلاسل التوريد العالمية:
التعريفات الجمركية أجبرت الشركات متعدِّدة الجنسيات على إعادة النظر في سلاسل التوريد الخاصة بها. قطاع التكنولوجيا كان من أبرز المتضرِّرين، حيث اضطرَّ عمالقة التكنولوجيا -مثل: أبل- إلى البحث عن بدائل لخطوط الإنتاج في الصين.
زيادة التوتُّرات التجارية:
العلاقات التجارية بين الولايات المتحدة وحلفائها التقليديين مثل اليابان وكوريا الجنوبية شهدت تدهورًا، ممَّا زاد من تعقيد المشهد التجاري العالمي(5).
الأثر على الدول النامية:
تراجع الصادرات:
الدول النامية التي تعتمد على تصدير السلع إلى الأسواق الأمريكية تأثَّرت بشكل كبير، حيث واجهت تعريفات أعلى على منتجاتها، ممَّا قلَّل من تنافسيتها.
زيادة المنافسة:
بسبب التحوُّلات في التجارة العالمية، ازدادت المنافسة بين الدول النامية للحصول على حصة من الأسواق البديلة، ممَّا زاد من الضغوط الاقتصادية عليها.
فرص جديدة:
في المقابل: استفادت بعض الدول النامية مثل فيتنام والهند من زيادة الاستثمارات الأجنبية التي هربت من الصين(6).
أثر التعريفات على الدولار والأسواق المالية:
في حين يعتقد بعض المستثمرين أنَّ فرض التعريفات قد يؤدِّي إلى تقوية الدولار الأمريكي؛ إلاَّ أنَّ ردود الفعل الأولية للأسواق بعد إعلان ترامب عن التعريفات كانت سلبية؛ فقد انخفض مؤشِّر داو جونز وبعض المؤشِّرات الأخرى، ممَّا يُعكس القلق بشأن زيادة التكاليف واحتمالية تباطؤ النمو الاقتصادي. وعلى الرغم من أنَّ الدولار قد يقوى في الأجل القصير؛ إلاَّ أنَّ الآثار الاقتصادية طويلة المدى -مثل ارتفاع الأسعار وتباطؤ التجارة العالمية- قد تعوِّض أيَّ مكاسب فورية.
وقد قدَّر معهد بيترسون للاقتصاد الدولي أنَّ التعريفات المقترحة من ترامب قد تكلِّف الأسرة الأمريكية العادية أكثر من 2600 دولار سنويًّا، ممَّا يزيد من الضغط على ميزانيات الأسر(7).
ردود الفعل الدولية:
منظَّمة التجارة العالمية (WTO):
رأت منظَّمة التجارة العالمية أنَّ هذه السياسات تُخالف مبادئ التجارة الحرَّة، وواجهت انتقادات لعدم قدرتها على التعامل بفعالية مع النزاعات الناتجة عن التعريفات الجمركية.
تحالفات تجارية جديدة:
سياسات ترامب دفعت الدول إلى تعزيز التعاون الإقليمي من خلال اتفاقيات مثل: CPTPP، ممَّا أدَّى إلى تراجع النفوذ التجاري الأمريكي في بعض المناطق(9).
ارتفاع الدين الأمريكي:
أمَّا الاقتصاد الأمريكي، فيُنظر إلى انتفاعه أو تضرُّره من سياسات ترامب من منظور سياسات الرئيس المنتخب بالكلِّية، فالرئيس المنتخب يسعى إلى خفض الضرائب وتعويض تراجع الإيرادات جزئيًّا من التعريفات الجمركية المرتفعة، لكنه على الأرجح سيرفع الدين العام الأمريكي إلى مستويات تاريخية وفق تحليل لصحيفة فايننشال تايمز. وأظهر استطلاع أجرته رويترز بالتعاون مع إيبسوس خلال الشهر الجاري أنَّ معظم الأمريكيين يعتقدون أنَّ الرئيس المنتخب دونالد ترامب سيدفع الحكومة الأمريكية نحو ديون أكبر خلال فترة ولايته القادمة. وكشفت نتائج الاستطلاع، الذي استمرَّ يومين واختُتم الخميس الماضي، أنَّ 62% من المشاركين- بما في ذلك 94% من الديمقراطيين و34% من الجمهوريين- يعتقدون أنَّ سياسات ترامب “ستدفع الدين الوطني الأمريكي إلى الارتفاع”.
أشارت رويترز إلى أنَّ خطط ترامب لتخفيض الضرائب قد تضيف نحو 7.5 تريليونات دولار إلى الدين الوطني خلال العقد القادم، وذلك وفقًا لتقديرات اللجنة غير الحزبية للموازنة الفدرالية المسؤولة.
وبينما يعرب الديمقراطيون عن قلق أكبر تجاه الوضع المالي في ظلِّ سياسات ترامب؛ إذ عبر 89% منهم عن خشيتهم من ارتفاع الدين العام، ويرى 19% فقط من الجمهوريين هذه المخاوف مبرَّرة.
والشهر الماضي توقَّعت لجنة الميزانية الفدرالية الأمريكية أنَّ الخطط الاقتصادية التي طرحها ترامب خلال حملته الانتخابية في حال تطبيقها ستؤدِّي إلى زيادة الدين الفدرالي بنحو ضعف الزيادة المتوقَّعة للخطط الاقتصادية المقترحة من قبل منافسته السابقة كامالا هاريس. ووفقًا لتحليل اللجنة غير الحزبية، رجَّحت أن يتضخَّم الدين الفدرالي بحلول عام 2035 بمقدار 7.5 تريليونات دولار إذا فاز ترامب ونفَّذ تعهُّده بخفض الضرائب على الأفراد والشركات، وطبَّق تعريفات جمركية كبيرة على السلع المستوردة ورحَّل ملايين المهاجرين، مع إجراءات أخرى يعتزم تطبيقها. ويبلغ الدين الأمريكي حاليًّا 99% من الناتج المحلِّي الإجمالي، وفق مكتب الميزانية في الكونغرس، ومن المتوقَّع أن يرتفع إلى 125% بعد 10 سنوات من الآن إذا لم تكن ثمَّة تغييرات في القوانين الحالية. وفي حال تطبيق برنامج ترامب الاقتصادي يتوقَّع أن يزيدها 17% إلى 142% من الناتج المحلِّي الإجمالي الذي يربو على 28.8 تريليون دولار(10).
التحدِّيات والفرص:
التحدِّيات:
صعوبة التكيُّف مع التكاليف المرتفعة للتجارة. تصاعد النزاعات التجارية التي تؤدِّي إلى تعطيل الاقتصاد العالمي.
الفرص:
تعزيز الاستثمارات في الدول النامية التي تقدِّم بدائل للتصنيع، تطوير صناعات محلِّية قادرة على المنافسة العالمية.
آراء الخبراء:
يرى بعض الاقتصاديين أنَّ التعريفات الجمركية كانت ضرورية لحماية الصناعات الأمريكية، بينما يرى آخرون أنَّها أدَّت إلى إضعاف الاقتصاد العالمي وزيادة التكاليف على المستهلكين. وعبَّر ممثِّلو الشركات عن استيائهم من ارتفاع التكاليف، لكن البعض رأى في السياسات فرصة لإعادة هيكلة الإنتاج. وأشار المسؤولون إلى أنَّ هذه السياسات كانت تهدف لإعادة التوازن التجاري للولايات المتحدة، معترفين بتحدِّيات التطبيق(11).
الخلاصة:
زيادة التعريفات الجمركية أحدثت تحوُّلاً كبيرًا في التجارة العالمية، مع آثار متباينة على الدول والشركات. ويمكن القول: إنَّه رغم دور سياسات ترامب الجمركية في تعزيز الاقتصاد المحلِّي ومعالجة العجز التجاري؛ فإنَّها تحمل أخطارًا أخرى؛ منها: زيادة الضغوط التضخُّمية واضطراب النظام التجاري العالمي، وكذلك تصاعد التوتُّرات بين القوى الاقتصادية العظمى؛ وبهذا يصبح التحدِّي الرئيسي أمام إدارة ترامب هو كيفية تحقيق التوازن بين حماية المصالح الوطنية وضمان استقرار الاقتصاد العالمي.
المصادر:
1_ مركز الروابط للأبحاث والدراسات
2_ الشروق
3_ العربية
4_ قناة المملكة
5_ المصري اليوم
6_ أرقام
8_ الجزيرة
9_ بي بي سي
11_ سي إن بي سي
النشرة البريدية
كن على اطلاع بأحدث الدراسات والمقالات والفعاليات الفكرية