السياسة الصينية في ليبيا بين الحفاظ على المصالح وتجنب المخاطر

Last Updated: مارس 19, 2025By Tags: ,

السياسة الصينية في ليبيا بين الحفاظ على المصالح وتجنب المخاطر

ليبيا، الدولة الغنية بالنفط والمُثقلة بصراعات داخلية منذ سقوط نظام القذافي في عام 2011، أصبحت ساحةً لتجاذبات إقليمية ودولية، بينما تتنافس القوى العالمية والإقليمية على تعزيز نفوذها في هذا البلد المضطرب، تبرز الصين كفاعل رئيسي يتبع إستراتيجية مختلفة: الحياد السياسي.

ولكن لماذا تلتزم الصين بهذا الحياد رغم قدراتها الاقتصادية الهائلة؟ وما الأهداف التي تسعى إليها من وراء هذه السياسة؟ 

هذا الموضوع الصحفي يسلط الضوء على الدور الصيني في ليبيا، مع التركيز على أسباب التزام الصين بالحياد السياسي، وكيفية استخدامها لقوتها الاقتصادية للتغلغل في ليبيا دون الانخراط في الصراعات الداخلية. كما نستعرض الآفاق المستقبلية للعلاقات الصينية الليبية في ظل التطورات الجيوسياسية الحالية.

الصين وليبيا.. خلفية العلاقة:

العلاقات التاريخية بين الصين وليبيا:

تعود العلاقات بين الصين وليبيا إلى عقود مضت، حيث بدأت الدبلوماسية الصينية في تعزيز علاقاتها مع الدول الإفريقية منذ منتصف القرن العشرين.

في عهد القذافي، كانت ليبيا شريكًا اقتصاديًّا مهمًّا للصين، خاصة في مجال الطاقة والبنية التحتية.

ومع سقوط نظام القذافي، واجهت الصين تحديًّا كبيرًا في الحفاظ على مصالحها في بيئة سياسية وأمنية غير مستقرة.

خلال الربيع العربي، اتخذت الصين موقفًا حذرًا، حيث تجنبت التدخل المباشر في الشؤون الداخلية للدول العربية.

في ليبيا، على وجه الخصوص، امتنعت الصين عن التصويت على قرار مجلس الأمن الدولي الذي مهد الطريق للتدخل العسكري الدولي ضد نظام القذافي.

هذا الموقف يعكس إستراتيجية الصين في تجنب الانخراط في الصراعات الداخلية للدول الأخرى، مع الحفاظ على علاقات جيدة مع جميع الأطراف(1).

الحياد خلال الموجة الأولى من الحرب:

سعت الصين إلى الحفاظ على علاقات متوازنة مع نظام الرئيس الليبي الراحل معمّر القذافي والمعارضة الثورية إبان الثورة. ويُعزى ذلك إلى إدراك الصين أن ديناميّات النزاعات القبلية دائمًا ما تكون معقدة وعادةً ما تستمر لفترة طويلة. ومن خلال تحقيق التوازن في علاقاتها مع كلا الطرفين، خطَّت الصين خطوةً نحو حقبة ما بعد الحرب، مهيأةً نفسها للتعامل مع أيٍ من الطرفين. فبعد أشهر من تأسيسها، تواصلت الصين مع المعارضة الليبية، ممثلةً في المجلس الوطني الانتقالي، وسرعان ما طوَّرت علاقة عمل قوية مع زعماء المعارضة. وفي يونيو 2011، عقدت الصين اجتماعها الأول مع رئيس المكتب التنفيذي للمجلس الوطني الانتقالي محمود جبريل. وفي الشهر التالي، زار وفد صيني مقر المجلس الوطني الانتقالي في مدينة بنغازي (شرقي ليبيا).

ورغم تنامي العلاقات مع المجلس الوطني الانتقالي، واصلت الصين الاحتفاظ بعلاقاتها الدبلوماسية مع نظام القذافي. ولكن، في يوليو 2011، ظهرت تقارير تتهم الصين بتسليح قوات القذافي سرًّا، منتهكةً بذلك عقوبات الأمم المتحدة. ورغم نفي الصين هذه الادعاءات، أعرب المجلس الوطني الانتقالي عن عدم ثقته في نوايا الصين، وشكَّك في مصداقيتها كشريك. وحرصًا منها على سمعتها ومصالحها الاقتصادية، تجنَّبت الصين اتخاذ موقف متحيز بالكامل. وبدلًا من ذلك، استغلت الصين نفوذها الاقتصادي وانخراطها المحدود في النزاع للحفاظ على موقف محايد(2).

لماذا التزمت الصين الحياد السياسي في ليبيا؟

تجنب المخاطر الأمنية:

ليبيا، التي تعاني من حرب أهلية مستمرة وانقسامات سياسية عميقة، تُعتبر بيئة محفوفة بالمخاطر للاستثمارات الأجنبية.

الصين، التي تفضل الاستثمار في بيئات مستقرة، تدرك أن الانخراط في الصراع الليبي قد يعرض مصالحها للخطر؛ لذلك، اختارت الصين الحياد السياسي كوسيلة لتجنب التورط في الصراعات الداخلية التي قد تؤدي إلى خسائر اقتصادية وسياسية.

الحفاظ على العلاقات مع جميع الأطراف:

من خلال الحياد السياسي، تمكنت الصين من الحفاظ على علاقات جيدة مع جميع الأطراف الليبية، بما في ذلك حكومة الوفاق الوطني وحكومة طبرق.

هذا النهج يسمح للصين بالحفاظ على مصالحها الاقتصادية في ليبيا، بغض النظر عمن سيسيطر على الحكم في المستقبل.

التركيز على المصالح الاقتصادية:

الصين، التي تُعتبر أكبر مستثمر أجنبي في إفريقيا، تركز على تعزيز مصالحها الاقتصادية في ليبيا، خاصة في قطاعات الطاقة والبنية التحتية.

من خلال الحياد السياسي، تستطيع الصين تعزيز وجودها الاقتصادي دون أن تُنظر إليها كطرف متحيز في الصراع الليبي(3).

اتجاهات تصويت الصين بشأن القضايا الليبية:

اتّسم موقف الحكومة الصينية إزاء الثورة الليبية في عام 2011 بالحياد؛ ففي الوقت الذي امتنعت فيه الصين عن تأييد التدخُّل العسكري لحلف شمال الأطلسي (الناتو) في ليبيا، إلا أنها أعربت عن قلقها حيال الأزمة الإنسانية الناجمة عن استمرار القتال وحدّته. وكان بوسع الصين أن تستخدم حق النقض (الفيتو) ضد قرار مجلس الأمن الدولي التابع للأمم المتحدة الذي فوَّض حلف الناتو بالتدخل العسكري في ليبيا للإطاحة بنظام القذافي.

ولكن الصين امتنعت عن التصويت للأسباب الآتية:

أولًا: سعت الصين إلى حماية مصالحها الاقتصادية في ليبيا، من خلال عدم تأييد العمليات العسكرية التي قادها حلف الناتو ضد نظام القذافي. فقد كان النفوذ الاقتصادي الصيني في ليبيا قبل عام 2011 قويًّا؛ إذ كان هناك أكثر من 75 شركة تعمل في مشروعات تُقَدَّر قيمتها بحوالي 18.8 مليار دولار. وقد وظَّفت هذه المشروعات أكثر من 30 ألف عامل صيني يعملون في قطاعات مختلفة مثل البناء، والاتصالات، والطاقة الكهرومائية. كما استوردت الصين 3% من احتياجاتها الوطنية من النفط من ليبيا؛ الأمر الذي يجعل الأخيرة ذات أهمية اقتصادية بالنسبة للصين. وعندما اندلعت ثورة 2011، واجهت الصين وضعًا صعبًا، حيث اعتبرت تدخُّل الناتو تهديدًا لمصالحها الاقتصادية. وازداد الوضع تعقيدًا بدعم جامعة الدول العربية والاتحاد الإفريقي لتدخُّل الناتو عسكريًّا. وقد دفع ذلك الصين إلى عدم استخدام الفيتو ضد قرار مجلس الأمن الذي فوَّض حلف الناتو بالتدخُّل في ليبيا، محاولةً عدم اتخاذ موقف ضد حالة الإجماع داخل الوطن العربي. وكما هو مُوَضَّح في الرسوم البيانية التالية، تبنَّت الصين موقفًا رسميًّا محايدًا في التصويت على القضايا الليبية.

ثانيًا: حاولت الصين تعزيز صورتها كلاعب عالمي مسؤول، من خلال انتقاد الأزمة الإنسانية التي نشأت بسبب الحرب. وكان استخدام الفيتو ضد تدخُّل الناتو ليُعَد دعمًا صينيًّا لنظام القذافي، وهو ما كان ليؤدي إلى تآكل أدوات القوة الناعمة الصينية في منطقة الشرق الأوسط.

ثالثًا: كان قرار الصين بمعارضة التدخُّل الذي قاده حلف الناتو في ليبيا مدفوعًا أيضًا بمخاوفها بشأن رفضها مبدأ “المسؤولية عن الحماية” الذي يسمح للقوى العالمية بالتدخُّل في الدول ذات السيادة لمنع الإبادة الجماعية والتطهير العرقي. ولطالما أعربت الصين عن رغبتها في غزو تايوان وضمَّها؛ الأمر الذي قد يدفع المجتمع الدولي إلى استخدام مبدأ “المسؤولية عن الحماية” للتدخُّل ضد الصين دون تفويض من مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة. إن وقائع التدخُّل العالمي في العراق في عام 2003 دون موافقة مجلس الأمن حاضرةً دائمًا في أذهان الصينيين أثناء التعامل مع الحالات المماثلة في العالم.

رابعًا: كانت الصين مهتمة للغاية بإفساح المجال لحلف الناتو للتورط في نزاعات جديدة في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، في محاولة لاستنزاف قوته. كما اعتقد الصينيون أن الناتو سيضرب المدنيين عن طريق الخطأ أو عن عمد؛ ما سيزيد من غضب السكان العرب ضد الغرب، وسيعطي الصين أيضًا مساحة أكبر لانتقاد الغرب(4).

الإستراتيجية الصينية في ليبيا.. القوة الاقتصادية بدلًا من القوة العسكرية:

القروض غير المشروطة:

تشتهر الصين بتقديم قروض غير مشروطة للدول النامية، وهو نهج تتبعه أيضًا في ليبيا.

هذه القروض تسمح للصين بتعزيز نفوذها الاقتصادي دون فرض شروط سياسية، مما يجعلها شريكًا جذابًا للدول التي تعاني من صدمات اقتصادية.

استثمارات البنية التحتية:

الصين تستثمر بشكل كبير في مشاريع البنية التحتية في ليبيا، بما في ذلك الطرق والموانئ والطاقة.

هذه الاستثمارات لا تعزز فقط العلاقات الاقتصادية بين البلدين، ولكنها أيضًا تخلق فرص عمل وتساهم في إعادة إعمار ليبيا.

تجنب المخاطر طويلة الأجل:

على الرغم من استعداد الصين للاستثمار في ليبيا، إلا أنها تدرك أن الاستثمارات في بلد مزقته الحرب الأهلية تحمل أخطار كبيرة؛ لذلك، تفضل الصين المشاريع قصيرة الأجل التي يمكن أن تُدر عوائد سريعة، بدلاً من المشاريع طويلة الأجل التي قد تكون عرضة للتقلبات السياسية والأمنية(5).

الآفاق المستقبلية للدور الصيني في ليبيا:

تعزيز الدور الاقتصادي:

مع استمرار الصين في تعزيز وجودها الاقتصادي في ليبيا، من المتوقع أن تلعب دورًا أكبر في إعادة إعمار البلاد بعد انتهاء الصراع.

هذا الدور سيعزز من نفوذ الصين في المنطقة، ويجعلها شريكًا اقتصاديًّا رئيسيًّا لليبيا.

التحديات المحتملة:

على الرغم من النجاحات التي حققتها الصين في ليبيا، إلا أنها تواجه تحديات كبيرة، بما في ذلك عدم الاستقرار السياسي والأمني، والمنافسة من القوى الدولية الأخرى مثل روسيا وتركيا.

هذه التحديات قد تعيق قدرة الصين على تحقيق أهدافها الاقتصادية في ليبيا.

الدور الجيوسياسي:

مع تزايد التنافس بين القوى العالمية في ليبيا، قد تضطر الصين إلى تعديل إستراتيجيتها لمواجهة التحديات الجيوسياسية.

هذا قد يشمل تعزيز التعاون مع القوى الإقليمية والدولية لضمان استقرار ليبيا وحماية مصالح الصين(6).

الصين والتنافس الدولي في ليبيا:

الصين وروسيا: تحالف أم تنافس؟

في ليبيا، تتنافس الصين وروسيا على تعزيز نفوذهما، لكن بأساليب مختلفة. بينما تعتمد روسيا على القوة العسكرية والدعم السياسي لأطراف معينة، تركز الصين على الجانب الاقتصادي.

هذا التنافس قد يؤدي إلى توترات بين البلدين، ولكنه أيضًا قد يفتح أبوابًا للتعاون في بعض المجالات.

الصين وتركيا: صراع النفوذ:

تركيا، التي تلعب دورًا رئيسيًّا في ليبيا من خلال دعمها لحكومة الوفاق الوطني، تتنافس مع الصين على النفوذ الاقتصادي.

ومع ذلك، قد تجد البلدين فرصًا للتعاون في مشاريع إعادة الإعمار، خاصة في قطاعات البنية التحتية والطاقة.

الصين والغرب: تجنب المواجهة:

الصين تفضل تجنب المواجهة المباشرة مع القوى الغربية في ليبيا، وبدلًا من ذلك تركز على تعزيز وجودها الاقتصادي.

هذا النهج يسمح للصين بالحفاظ على مصالحها دون الدخول في صراعات جيوسياسية مع الولايات المتحدة أو الاتحاد الأوروبي(7).

الصين وليبيا: إستراتيجية الحياد لضمان المستقبل:

الصين، من خلال التزامها بالحياد السياسي في ليبيا، تمكنت من تعزيز مصالحها الاقتصادية دون الانخراط في الصراعات الداخلية.

هذا النهج يعكس إستراتيجية الصين في التعامل مع الدول الهشة، حيث تركز على المصالح الاقتصادية بدلاً من المخاطر السياسية.

ومع استمرار التطورات في ليبيا، من المتوقع أن تلعب الصين دورًا أكبر في إعادة إعمار البلاد، مما يعزز من نفوذها في المنطقة(8).

الدور الرئيسي المتوقع في المستقبل:

تهتم الصين بشكل كبير باستقرار ليبيا، وتطمح إلى الاضطلاع بدور اقتصادي بارز في مستقبل البلاد. وقد دفع هذا الطموح الصين دائمًا إلى تبني موقف محايد يسمح لها بإقامة علاقات مع جميع الأطراف المنخرطة في النزاع. ويمكن تحليل الدور المستقبلي للصين في ليبيا من خلال ما يلي:

الحياد الملموس: ستواصل الصين الاضطلاع بدور محايد مع الحفاظ على علاقات دبلوماسية واقتصادية قوية مع طرفي النزاع في ليبيا. كما ستستخدم الصين علاقاتها الاقتصادية للحصول على المزيد من العقود لشركاتها، خاصةً في البنية التحتية، في محاولة لتعميق وجودها في البلاد. وقد يسمح الحفاظ على الحياد للصين باللعب على الجانبين، وبالتالي تعظيم منافعها وزيادة نفوذها تدريجيًّا.

تعزيز الانخراط السياسي: بمرور الوقت، قد تسعى الصين إلى الاضطلاع بدور سياسي أكبر في ليبيا، من خلال التوسط بين القوات المتمركزة في الشرق والقوات المتمركزة في الغرب. ومن شأن النجاح في مساعدة أطراف النزاع على توقيع اتفاقية سلام، وإجراء انتخابات برلمانية ورئاسية، أن يعزز الموقف العالمي للصين كشريك موثوق به قادر على المساهمة في إنهاء النزاعات. وسيزيد ذلك أيضًا من اعتماد دول أخرى في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا على الصين، وقد يؤثر ذلك سلبًا على دور الولايات المتحدة الأمريكية تدريجيًّا. لذلك، فإن الدور المتزايد للصين في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا قد يدفع قوى عالمية مثل الولايات المتحدة إلى ممارسة المزيد من الضغوط على الأطراف المحلية، في محاولة للحد من النفوذ الصيني(11).

الخلاصة:

الصين تتبع إستراتيجية واضحة في ليبيا تعتمد على الحياد السياسي والتغلغل الاقتصادي، بهدف تعزيز مصالحها دون الانخراط في الصراعات الداخلية. من خلال هذه الإستراتيجية، تمكنت الصين من:

1. تجنب المخاطر الأمنية: ليبيا بيئة غير مستقرة بسبب الحرب الأهلية، والصين تفضل الاستثمار في دول مستقرة لتجنب الخسائر.

2. الحفاظ على العلاقات مع جميع الأطراف: الصين تحافظ على علاقات جيدة مع جميع الفصائل الليبية، مما يضمن استمرار مصالحها بغض النظر عمن يسيطر على الحكم.

3. التركيز على المصالح الاقتصادية: الصين تستثمر في قطاعات الطاقة والبنية التحتية، وتقدم قروضًا غير مشروطة لتعزيز نفوذها الاقتصادي دون شروط سياسية.

رغم نجاح الصين في تعزيز وجودها الاقتصادي، إلا أنها تواجه تحديات مثل المنافسة مع روسيا وتركيا وعدم الاستقرار السياسي في ليبيا.

وفي المستقبل، من المتوقع أن تلعب الصين دورًا أكبر في إعادة إعمار ليبيا، مع الحفاظ على حيادها السياسي لتجنب المخاطر.

باختصار، الصين تستخدم قوتها الاقتصادية لتعزيز نفوذها في ليبيا، مع تجنب التورط في الصراعات الداخلية، مما يجعلها لاعبًا رئيسيًّا في مستقبل البلاد دون الدخول في مواجهات جيوسياسية.

المصادر:

1_ CIDOB

2_ مركز رع للدراسات

4_ jstor

5_ الحائط العربي

6_ tandfonline

7_ cambridge

8_ carnegieendowment

9_ undp

10_ iemed

11_ مركز الإمارات