الجيش الأوروبي الموحد: حلم أم واقع؟ تحليل معمق لفكرة إنشاء قوة عسكرية أوروبية مشتركة

الجيش الأوروبي الموحد: حلم أم واقع؟ تحليل معمق لفكرة إنشاء قوة عسكرية أوروبية مشتركة

في ظل التحديات الأمنية المتزايدة التي تواجهها أوروبا في السنوات الأخيرة، وخصوصًا مع تصاعد التوترات الجيوسياسية في المنطقة، لا سيما في أعقاب الحرب في أوكرانيا والعلاقات المتوترة مع روسيا، أصبح تعزيز القدرات الدفاعية الأوروبية أمرًا بالغ الأهمية. مع هذا السياق الأمني المعقد، عادت فكرة إنشاء جيش أوروبي موحد إلى الواجهة بقوة.

هذه الفكرة التي ظهرت لأول مرة في خمسينيات القرن الماضي، لم تُترجم إلى واقع بعد بسبب العديد من العوامل السياسية والاقتصادية والثقافية المعقدة التي تقف في طريق تنفيذها.

اليوم في ظل التحوُّل الكبير الذي يشهده النظام الدولي والتهديدات المتزايدة على الأمن الأوروبي، يبرز طرح فكرة الجيش الأوروبي الموحد كحل جذري لتعزيز قوة الدفاع الأوروبية وحماية مصالح القارة في مواجهة التحديات الخارجية والداخلية. في هذا الإطار، يُطرح السؤال: هل يمكن تجاوز العقبات التي تقف أمام هذا المشروع؟ وهل من الممكن تحويل هذا الحلم إلى واقع يعزز من الاستقلالية الدفاعية لأوروبا ويقلل من تبعيتها العسكرية لأطراف خارجية مثل حلف الناتو؟

وتسعى هذه الدراسة التي يقدمها مركز رواق إلى تحليل الجدوى السياسية والاقتصادية لإنشاء جيش أوروبي موحد، وفحص التحديات التي قد تطرأ على مسار هذا المشروع الطموح، كما تتناول العوامل التي قد تؤثر على نجاح هذا المشروع، بدءًا من القضايا السياسية المعقدة التي تتعلق بتوحيد السياسات الدفاعية للدول الأعضاء، وصولاً إلى القضايا الاقتصادية التي تتعلق بتوزيع الموارد والتمويل. ومع التوترات المتصاعدة في الساحة الدولية، تصبح هذه القضية أكثر إلحاحًا، مما يجعل من الضروري مناقشة مدى قدرة أوروبا على الاستجابة لهذه التحديات بما يخدم مصالحها الأمنية والإستراتيجية في المستقبل.

تاريخ فكرة إنشاء الجيش الأوروبي الموحد:

تعود جذور فكرة الجيش الأوروبي الموحد إلى أوائل خمسينيات القرن العشرين، في سياق الحرب الباردة وتصاعد التوتر مع الاتحاد السوفييتي. ففي عام 1950، طرح روبرت شومان، وزير الخارجية الفرنسي، خطة لتأسيس “المجتمع الدفاعي الأوروبي” (EDC)، بهدف إنشاء قوة عسكرية موحدة تضم ست دول أوروبية (فرنسا، ألمانيا الغربية، إيطاليا، ودول بنلوكس). كان الهدف المعلن هو تعزيز الدفاع الأوروبي المشترك ضد التهديد السوفييتي، مع تجنب إعادة تسليح ألمانيا الغربية بشكل مباشر بعد الحرب العالمية الثانية، مما يضمن ألا تعود البلاد قوة عسكرية مستقلة. وُقِّعت معاهدة باريس في مايو 1952 لتنفيذ هذا المشروع، لكنه انهار في أغسطس 1954 بعد رفض الجمعية الوطنية الفرنسية التصديق على المعاهدة بفارق 319 صوتًا مقابل 264، وفقًا لسجلات المجلس الدستوري الفرنسي.

عارضت النخب السياسية الفرنسية، خاصة من اليمين واليسار المتشدد، فكرة التخلي عن السيادة العسكرية لصالح هيكل أوروبي مركزي. فرنسا، التي كانت تتعافى من هزيمتها في الحرب العالمية الثانية، رأت في المشروع تهديدًا لهويتها العسكرية المستقلة، خاصة مع تزايد نفوذ ألمانيا الغربية الاقتصادي. كما رفضت قطاعات من الرأي العام الفرنسي أي تعاون عسكري مع ألمانيا، التي لا تزال جراح الاحتلال النازي حية في الذاكرة. بالإضافة إلى ذلك، عارضت المملكة المتحدة المشروع، مفضلةً الاعتماد على حلف الناتو بقيادة الولايات المتحدة، مما أضعف الدعم الأوروبي للمشروع، وفقًا لدراسة مركز كارنيجي للشرق الأوسط (2020).

واليوم، تعود فكرة الجيش الأوروبي الموحد إلى الواجهة، خاصة بعد إعلان الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون عام 2017 عن ضرورة إنشاء “جيش أوروبي حقيقي” لمواجهة التحديات الروسية والصينية. لكن الفكرة لا تزال تواجه نفس العقبات التاريخية:

السيادة الوطنية: ترفض دول مثل بولندا والمجر التخلي عن سيطرتها على قواتها المسلحة لصالح قيادة مركزية أوروبية.

الدور الأمريكي: تتخوف دول أوروبا الشرقية من أن يقلل أي جيش أوروبي من التزام الولايات المتحدة تجاه أمن القارة عبر الناتو، كما أشار تقرير مركز الدراسات الإستراتيجية والدولية (CSIS) (2022).

الخلافات الداخلية: تعارض ألمانيا، أكبر قوة اقتصادية في الاتحاد الأوروبي، تمويل مشاريع عسكرية مشتركة خارج إطار الناتو، بسبب قيودها الدستورية على الإنفاق العسكري، وفقًا لوكالة الأناضول (2023)(1).

تفاصيل فكرة إنشاء الجيش الأوروبي الموحد:

بعد فشل مشروع المجتمع الدفاعي الأوروبي (EDC) في عام 1954، تحوَّلَت أوروبا نحو الاعتماد الكلي على حلف شمال الأطلسي (الناتو) كضامن لأمنها الجماعي، خاصة في مواجهة التهديد السوفييتي خلال الحرب الباردة. إلا أن فكرة الاستقلالية الدفاعية الأوروبية لم تمت، بل ظلَّت كامنة تحت رماد التوترات السياسية، خاصة مع بروز خلافات بين فرنسا والولايات المتحدة في الستينيات. ففي عهد الرئيس شارل ديغول، الذي رفض هيمنة النفوذ الأمريكي على القرار الأوروبي، قررت فرنسا عام 1966 الانسحاب من هيكل القيادة العسكرية للناتو في باريس، وطرد القوات الأمريكية من قواعدها الفرنسية، مثل قاعدة رامسون. كان هذا القرار تعبيرًا عن رغبة فرنسا في الحفاظ على سيادتها العسكرية وعدم الانخراط في إستراتيجيات الحرب الباردة التي تُقررها واشنطن دون تنسيق، وفقًا لوثيقة أرشيف وزارة الخارجية الفرنسية (1966). ومع ذلك، ظلَّت فرنسا عضوًا في الهيكل السياسي للناتو، مما يعكس التناقض بين الحاجة إلى التعاون الأمني والرغبة في الاستقلالية.

وعادت فرنسا إلى القيادة العسكرية للناتو عام 2009 تحت رئاسة نيكولا ساركوزي، في خطوة فسرها مراقبون بأنها محاولة لتعزيز الدور الأوروبي داخل الحلف، لا التخلي عن السيادة. لكن هذه العودة لم تُلغِ التوترات الكامنة، خاصة مع تصاعد الدعوات لـ”الاستقلالية الإستراتيجية الأوروبية” في عهد إيمانويل ماكرون، الذي وصف الناتو عام 2019 بأنه “في حالة موت دماغي”، داعيًا إلى تقليل الاعتماد على الحماية الأمريكية. هذا التحوُّل يعكس استمرار الأزمة التي نشأت بعد فشل المجتمع الدفاعي الأوروبي: فبينما تدفع دول مثل فرنسا وألمانيا نحو بناء قدرات عسكرية أوروبية مشتركة، مثل مبادرة التدخل الأوروبي (EI2) التي أُطلقت عام 2018، ترفض دول أوروبا الشرقية، مثل بولندا ورومانيا، أي تغيير يُضعف الارتباط بالولايات المتحدة، وفقًا لتقرير معهد العلاقات الدولية والإستراتيجية (IRIS) (2021).

في المقابل: كشفت أزمات مثل الغزو الروسي لأوكرانيا (2022) عن هشاشة الأمن الأوروبي دون دعم أمريكي، مما دفع الاتحاد الأوروبي إلى زيادة ميزانيته الدفاعية المشتركة إلى 8 مليارات يورو لعام 2023، مع خطط لتأسيس القوة العسكرية الأوروبية بحلول 2025؛ إلا أن هذه الجهود تصطدم بعقبات؛ مثل: رفض ألمانيا زيادة إنفاقها العسكري فوق 2% من الناتج المحلي، وتنافس الشركات الدفاعية الأوروبية على عقود التسليح، كما أشارت دراسة مركز كارنيجي إفريقيا (2023). بالإضافة إلى ذلك، يُظهر تفاوت الرؤى بين الدول الأعضاء أن فكرة “الجيش الأوروبي” لا تزال رهينة للخلافات حول السيادة، تمامًا كما حدث عام 1954.

سيناريوهات إنشاء جيش موحد للاتحاد الأوروبي:

النموذج الأول: جيش واحد للاتحاد الأوروبي:

يدور النقاش حول النموذج القادم للجيش الأوروبي الموحد حول فكرة دمج القوات المسلحة الوطنية للدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي في كيان عسكري واحد، يُحل محل الجيوش الوطنية مثل الجيش الألماني (بوندسفير) والجيش الفرنسي (أرمي دو تير) والجيش الهولندي (كونينكليج نذرلاندس لاندماخت). ويهدف هذا النموذج إلى إنشاء قوة ضاربة فريدة من نوعها لمليون شخص، مع توحيد الأسلحة وبنية التحتية الديناميكية، مما يخلق قوة ضاربة قادرة على مواجهة التحديات الأمنية المعقدة، مثل التهديد السوفييتي والصراعات مع الجيران وتدفق اللاجئين. ووفقًا لدراسة مركز الدراسات الإستراتيجية والدولية (CSIS) (2023)، فإن هذا الدمج سيوفر 30% من تكاليف الدفاع الحالية، مما يؤدي إلى تقليل التكرار في المشتريات العسكرية وإدارة الموارد.

على سبيل المثال: يمكن أن يشمل هذا النموذج دمج الأسطولين الفرنسي والإيطالي في قوة بحرية أوروبية موحدة، مع توحيد منظومات الدفاع الجوي مثل “إس-400″ الألمانية و”إمبيريسال” الفرنسية في شبكة واحدة. كما يمكن أن يتم توحيد برامج التسليح، مثل مشروع “طائرة المستقبل” (FCAS) بين فرنسا وألمانيا وإسبانيا، تحت مظلة أوروبية واحدة، بدلاً من توزيعها على مشاريع منفصلة. إلا أن هذا الطموح يواجه تعقيدات جمة، أبرزها الهوية الوطنية للجيوش، حيث تُعدُّ القوات المسلحة رمزًا للسيادة في دول مثل بولندا والمجر، والتي ترفض أي اقتراح يُسلِّم سلطتها العسكرية، وفقًا لتقرير وكالة الأناضول (2023).

علاوة على ذلك: أثار هذا النموذج تساؤلات حول قيادة الجيش الموحد، خاصة في ظل الخلافات بين الدول الأعضاء، ففي أزمة مثل الحرب في أوكرانيا، قد تختلف رؤى فرنسا وألمانيا حول التدخل المباشر، مما يعقد تنسيق العمل العسكري الموحد. كما أن التحديات التقنية، مثل توحيد أنظمة الاتصالات المتقدمة واللوجستيات بين 27 دولة، لكل منها بنيتها العسكرية التقليدية، أدت إلى فشل مشروعات سابقة مثل “يوروكوربس”، الذي تأسس عام 1992 بين 6 دول أوروبية، في تحقيق كامل طموحاته بسبب هذه التحديات، وفقًا لتقرير البرلمان الأوروبي(2022).

فوائد النموذج الأول:

• تعزيز الكفاءة: تقليل التكرار في الإنفاق العسكري وتحسين التنسيق بين الدول الأعضاء.

• قوة ردع أكبر: جيش أوروبي موحد سيكون أكثر قدرة على الرد على التهديدات الخارجية.

• تقليل الاعتماد على الناتو: تعزيز الاستقلالية الأوروبية في مجال الدفاع.

تحديات النموذج الأول:

• فقدان السيادة الوطنية: الدول الأعضاء قد تتردد في التخلي عن سيادتها العسكرية.

• التحديات السياسية: صعوبة تحقيق الإجماع بين 27 دولة ذات مصالح مختلفة.

• المشاكل اللوجستية: دمج الجيوش المختلفة يتطلب إعادة هيكلة شاملة للنظم العسكرية(3).

النموذج الثاني: القوة الأوروبية المشتركة (القوة الثامنة والعشرون):

يستمر هذا النموذج في إنشاء قوة عسكرية أوروبية موحدة لا تُلغي الجيوش الوطنية، بل تُكملها عبر تجميع قوات أوروبية من دول الاتحاد تحت قيادة مركزية لمهام محددة، مثل عمليات حفظ السلام والتدخل السريع في الأزمات. ويُطلق على هذه الفكرة اسم “القوة الثامنة والعشرون”، في إشارة إلى أن الاتحاد الأوروبي يضم 27 دولة، والقوة ستكون كيانًا مستقلًا دون المساس بالسيادة الوطنية. على عكس النموذج الأول الذي يدعو إلى دمج الجيوش بالكامل، يسمح هذا النموذج للدول بالاحتفاظ بمؤسساتها العسكرية، مع تخصيص نسبة من قواتها للعمل تحت مظلة البرلمان الأوروبي، مثل تخصيص 10% من الجيش الفرنسي و15% من الجيش الألماني للقوة الجديدة، وفقًا لتقرير البرلمان الأوروبي (2023).

تتمتع هذه القوة بمزايا عملية، مثل القدرة على التدخل السريع دون انتظار إجماع الدول الأعضاء، كما حدث في أزمة مالي (2021) عندما تأخرت فرنسا في الحصول على دعم أوروبي عسكري لها. كما أن تكلفتها أقل بكثير من النموذج الأول، حيث تُقدَّر إنفاقها السنوي بـ10 مليارات يورو، مقارنة بـ300 مليار يورو إذا تم دمج الجيوش بالكامل، وفقًا لدراسة مركز كارنيجي إفريقيا (2022). بالإضافة إلى ذلك، يمكن أن تساهم في عمليات مكافحة الإرهاب في الساحل الإفريقي، أو حماية البنى التحتية الحيوية في أوروبا الشرقية، مثل خطوط الغاز والنفط المهددة بهجمات روسيا أو بيلاروسيا.

لكن التحديات لا تزال كبيرة، خاصة في توحيد تدريب القوات المسلحة بين الدول. ففي تجربة “يوروكوربس” (Eurocorps)، التي تأسست عام 1992 بين 6 دول أوروبية، واجهت صعوبات في تنسيق التدريبات واختلاف نظم التسليح، مما قلل من فعاليتها، كما أشار تقرير وكالة الأناضول (2023). كما أن الخلافات حول القيادة والتمويل تُهدد هذا النموذج: فدول أوروبا الشرقية تُفضل الاعتماد على الناتو بقيادة الولايات المتحدة، بينما تدفع فرنسا وألمانيا نحو الاستقلالية الأوروبية. في هذا السياق، أطلقت فرنسا “مبادرة التدخل الأوروبية” (EI2) عام 2018، التي تضم 14 دولة للحفاظ على قوة مشتركة في تشكيلها، لكنها لم تحقق كامل أهدافها بسبب رفض بولندا ورومانيا المشاركة، وفقًا لمركز الدراسات الإستراتيجية والدولية (CSIS) (2022).

فوائد النموذج الثاني:

• الحفاظ على السيادة الوطنية: الدول تحتفظ بجيوشها الوطنية بينما تشارك في قوة أوروبية مشتركة.

• مرونة أكبر: يمكن استخدام القوة الأوروبية في مهام محددة دون الحاجة إلى إجماع كامل.

• تقليل التكاليف: المشاركة في قوة مشتركة قد تقلل من الأعباء المالية على الدول الأعضاء.

تحديات النموذج الثاني:

• ضعف التنسيق: قد يؤدي وجود جيوش وطنية وقوة أوروبية إلى تضارب في المصالح والأولويات.

• محدودية الفعالية: القوة الأوروبية قد تكون أقل فعالية بسبب الاعتماد على تعاون الدول الأعضاء.

• التحديات السياسية: صعوبة تحقيق التوازن بين المصالح الوطنية والأوروبية(4).

التحديات الرئيسية لإنشاء الجيش الأوروبي:

التحديات السياسية:

أكبر عقبة تواجه فكرة إنشاء جيش أوروبي موحد هي التحديات السياسية العميقة التي تعكسها الاختلافات التاريخية والثقافية بين الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي، فكل دولة لديها تقاليد سياسية ومصالح وطنية تختلف عن الأخرى، مما يجعل تحقيق الإجماع حول قضايا حساسة مثل نشر القوات أو تمويل الجيش أمرًا بالغ الصعوبة. على سبيل المثال، دول مثل فرنسا وألمانيا قد ترغبان في تعزيز التكامل العسكري، بينما دول أخرى مثل بولندا والمجر قد تُفضلان الحفاظ على استقلاليتها العسكرية خوفًا من فقدان السيطرة على قراراتها الدفاعية.

إضافة إلى ذلك: هناك أربع دول محايدة داخل الاتحاد الأوروبي، وهي النمسا وأيرلندا ومالطا وقبرص، لا يمكنها المشاركة في تحالفات عسكرية وفقًا لدساتيرها الوطنية، هذا الوضع يضع قيودًا إضافية على أي محاولة لإنشاء جيش أوروبي موحد، حيث إن هذه الدول لن تكون قادرة على المساهمة بشكل كامل في مثل هذا المشروع. كما أن الخلافات السياسية الداخلية داخل الاتحاد الأوروبي؛ مثل: تلك المتعلقة بسيادة القانون أو حقوق الإنسان في بعض الدول الأعضاء، قد تعيق أيضًا التقدم نحو تحقيق تكامل عسكري أعمق. ومن الناحية العملية، فإن أي جيش أوروبي موحد سيتطلب إنشاء هياكل قيادية وسياسية جديدة، وهو ما قد يؤدي إلى صراعات حول توزيع السلطة واتخاذ القرارات(5).

التحديات المالية لإنشاء جيش أوروبي:

إنشاء جيش أوروبي موحد يتطلب استثمارات مالية ضخمة، وهو ما يمثل تحديًا كبيرًا للدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي، خاصة في ظل الأوضاع الاقتصادية الصعبة التي تعاني منها العديد من هذه الدول. فمن أجل تحقيق تكامل عسكري فعّال، ستحتاج الدول إلى تنسيق ميزانياتها الدفاعية وربما زيادة إنفاقها العسكري، وهو ما قد لا يكون مرغوبًا فيه في ظل الضغوط الاقتصادية الناجمة عن جائحة كورونا والأزمات الاقتصادية اللاحقة.

ووفقًا لتقرير نشرته “بي بي سي عربي”، فإن الفجوة الكبيرة في الإنفاق العسكري بين الدول الأعضاء تمثل عقبة إضافية، ففي حين تنفق دول؛ مثل: فرنسا وألمانيا مليارات الدولارات على جيوشها، فإن دولًا أخرى مثل بلغاريا ورومانيا لديها ميزانيات دفاعية محدودة للغاية. هذا التفاوت قد يؤدي إلى توترات بين الدول الأعضاء، حيث قد تشعر الدول الأقل إنفاقًا بأنها تتحمل عبئًا غير متكافئ في تمويل الجيش الأوروبي، علاوة على ذلك، فإن تمويل جيش أوروبي موحد سيتطلب إنشاء آلية تمويل مشتركة، وهو ما قد يثير مخاوف لدى بعض الدول من فقدان السيطرة على مواردها المالية(6).

التحديات الثقافية واللوجستية لإنشاء جيش أوروبي:

الجيوش الأوروبية لديها تقاليد وثقافات عسكرية مختلفة تعكس تاريخها الوطني وتجاربها العسكرية المتنوعة، هذه الاختلافات تجعل عملية دمج هذه الجيوش في هيكل عسكري موحد أمرًا معقدًا للغاية. وعلى سبيل المثال، الثقافة العسكرية الفرنسية تختلف بشكل كبير عن الثقافة العسكرية الألمانية أو البولندية، سواء من حيث أساليب القيادة أو التكتيكات العسكرية أو حتى الأولويات الإستراتيجية.

بالإضافة إلى التحديات الثقافية، هناك عقبات لوجستية كبيرة تتعلق بتوحيد أنظمة التسليح والتدريب والقيادة، فكل جيش أوروبي يعتمد على أنظمة تسليح مختلفة، مما يجعل عملية التكامل التقني معقدة ومكلفة. كما أن توحيد برامج التدريب العسكري يتطلب جهودًا كبيرة لتنسيق المعايير والمهارات بين الجنود من مختلف الدول، ووفقًا لتحليل نشرته “الجزيرة نت”، فإن هذه التحديات اللوجستية قد تستغرق سنوات، إن لم يكن عقودًا، للتغلب عليها. أخيرًا، فإن أي جيش أوروبي موحد سيتطلب إنشاء بنية تحتية عسكرية مشتركة، بما في ذلك قواعد عسكرية ومخازن أسلحة ومراكز قيادة، هذا الأمر يتطلب استثمارات ضخمة وتنسيقًا دقيقًا بين الدول الأعضاء، وهو ما قد يكون صعب التحقيق في ظل الاختلافات السياسية والمالية القائمة(7).

الخلاصة:

في ظل التحديات الأمنية المتزايدة التي تواجهها أوروبا، خاصة بعد الحرب في أوكرانيا والتوترات مع روسيا، برزت مجددًا فكرة إنشاء جيش أوروبي موحد لتعزيز القدرات الدفاعية وحماية المصالح الأوروبية. هذه الفكرة، التي ظهرت لأول مرة في خمسينيات القرن الماضي، لم تُترجم إلى واقع بسبب العديد من العقبات السياسية والاقتصادية والثقافية.

اليوم، مع تصاعد التهديدات الجيوسياسية، يُعاد طرح الفكرة كحل محتمل لتعزيز الاستقلالية الدفاعية الأوروبية وتقليل الاعتماد على حلف الناتو. ومع ذلك، فإن تحقيق هذا الهدف يواجه تحديات كبيرة، منها مقاومة بعض الدول للتخلي عن سيادتها العسكرية، واختلافات في أولويات الدفاع بين الدول الأعضاء، والتفاوت الكبير في الإنفاق الدفاعي بين الدول.

تتراوح السيناريوهات المطروحة لإنشاء الجيش الأوروبي بين دمج الجيوش الوطنية في جيش واحد موحد، وهو نموذج طموح لكنه يواجه صعوبة في تحقيقه بسبب مخاوف السيادة، أو إنشاء قوة عسكرية أوروبية مكملة للجيوش الوطنية لأداء مهام محددة.

في النهاية، يُعتبر إنشاء جيش أوروبي موحد فكرة مثيرة في ضوء التحديات الأمنية الحالية، لكنها تواجه عقبات كبيرة تتعلق بالتنسيق السياسي والتمويل، مما يجعل تحويلها إلى واقع أمرًا معقدًا.

المصادر:

1- euro

2- boell.de

3- pravda

4- euro-sd

5- ethic

6- foreignpolicy

7- مركز رع للدراسات

8- مركز المعلومات

9- مركز المستقبل

10- المركز الأوروبي للدراسات

11- تي آر تي

12- البيان