التقدم الروسي في أوكرانيا وسباق الوقت.. إستراتيجية الكرملين في أوكرانيا وأوروبا قبل تنصيب ترامب في يناير المقبل
التقدم الروسي في أوكرانيا وسباق الوقت.. إستراتيجية الكرملين في أوكرانيا وأوروبا قبل تنصيب ترامب في يناير المقبل
دخلت الحرب الباردة الجديدة والصراع المُحتدم ما بين روسيا والقوى الغربية، والذي يتجسد في الحرب الروسية الأوكرانية، مرحلة حرجة وشديدة الخطورة والتعقيد؛ إذ تُشكل تلك الحرب، لحظة مفصلية في إعادة صياغة التوازنات الدولية، والتي قد اختُلت مع انهيار الاتحاد السوفيتي وتفككه، أوائل تسعينيات القرن الماضي؛ فالحرب الروسية الأوكرانية تعكس صراعًا ملحميًّا أكبر ما بين الاتحاد الروسي والصين وكوريا الشمالية من جهة، وما بين الولايات المتحدة والقوى الغربية من جهة أخرى؛ ويبدو أن أطراف الصراع قد استنزفتهم طول أمد الحرب، مع عدم نجاح أي طرف في إلحاق هزيمة إستراتيجية بالآخر.
فأخذوا بالبحث عن بدائل، فالرئيس الأمريكي المنتخب “دونالد ترامب” الذي لطالما صرح بقدرته على وقف الحرب في أوكرانيا خلال 24 ساعة، قد أربك حسابات الحلفاء الغربيين؛ ودفع الإدارة الأمريكية الحالية، نحو انتهاج مزيدٍ من التصعيد مع روسيا، لزيادة تعقيد المشهد وإعاقة محاولات الإدارة الأمريكية المقبلة في وقف الحرب الروسية الأوكرانية، دون تحقيق هدف إلحاق هزيمة إستراتيجية بروسيا؛ على الجانب الآخر، أخذ الكرملين باستغلال حالة القلق والتخبط الغربي من قدوم ترامب، لتعزيز التحالفات الخارجية من جهة، وتحقيق مكاسب ميدانية من جهة أخرى تحقق للكرملين قوة تفاوضية، إذا ما عُقدت مباحثات بين موسكو وكييف، وموسكو وواشنطن.
فكيف يمكن قراءة مشهد الحرب الروسية الأوكرانية الحالي؟ وكيف تتحرك إدارة بايدن والقوى الغربية حاليًا على الساحة الأوروبية قبل تنصيب ترامب؟ ماذا عن إستراتيجية الكرملين في أوكرانيا وأوروبا خلال الفترة الحالية؟ وكيف يبدو مشهد الحرب الروسية الأوكرانية والصراع الروسي الغربي قبل تنصيب ترامب؟ ماذا عن خطة ترامب لإنهاء الصراع الروسي الأوكراني وكيف ستكون تداعياتها على مستقبل تحالفات الولايات المتحدة الخارجية؟
يسلط مركز “رواق” للأبحاث والرؤى والدراسات، في هذا التقرير عبر دراساته وتحليلاته المختلفة الضوء على؛ الحرب الروسية الأوكرانية والصراع الروسي الغربي وإستراتيجية القوى المتصارعة خلال الفترة الحالية في ظل خطة الإدارة الأمريكية المقبلة إزاء الصراع؛ في هذه السطور الآتية.
تطورات الحرب الروسية الأوكرانية خلال الفترة الأخيرة:
خلال العام الجاري 2024م والذي يُعد العام الثالث للحرب الروسية الأوكرانية، والعام الأخير لإدارة الرئيس الأمريكي “جو بايدن” في البيت الأبيض، شهدت خطوط التماس بين القوات الروسية والأوكرانية تطورات وتغييرات لافتة في مايو الماضي؛ إذ أطلق الكرملين هجومًا عسكريًّا مباغتًا ليفتح بذلك جبهة جديدة في مقاطعة خاركيف الأوكرانية، مع تقدم سريع مكَّن القوات الروسية من السيطرة على عدة قرى وبلدات في ثاني أكبر المقاطعات الأوكرانية من حيث عدد السكان (خاركيف)؛ وقد أدى الهجوم الروسي على خاركيف، إلى توسيع خط الجبهة بنحو 70 كيلومترًا؛ وكشف الرئيس الروسي “فلاديمير بوتين” عن أن الهدف من الهجوم على المقاطعة الحدودية، إقامة منطقة عازلة لوقف الهجمات التي تطال الأراضي الروسية المحاذية في بيلغورود. (العربية).
لتخف حدة المواجهات في جبهة خاركيف، مع إطلاق كييف هي الأخرى هجومًا مفاجئًا على مقاطعة كورسك الحدودية داخل الأراضي الروسية، والذي جاء بعد تعثر الهجوم الأوكراني المضاد، والذي كان يهدف إلى السيطرة على مقاطعة زاباروجيا والوصول إلى سواحل بحر أزوف لقطع الاتصال البري بين شبه جزيرة القرم وإقليمي دونباس وخيرسون، والتي تسيطر عليهم القوات الروسية؛ غير أن خط الدفاع الروسي الممتد على طول الجبهة بطول 640 ميلًا، قد أحبط الهجوم الأوكراني المضاد.
ما دفع كييف لتحريك جزء من قواتها للتوغل في عمق مقاطعة كورسك والسيطرة على نحو 1000 كيلومتر مربع من الأراضي؛ وقد نجحت القوات الروسية في استعادة نحو 60% من الأراضي التي سيطرت عليها القوات الأوكرانية في كورسك، لتتحول بذلك الخريطة الميدانية في أوكرانيا لسيطرة روسية شاسعة على مناطق الشرق والجنوب الأوكراني، تبلغ نسبتها نحو 20% من مجمل مساحة الأراضي الأوكرانية، مع تقدم روسي سريع مكَّن الكرملين من السيطرة على أكثر من 880 كيلومترًا مربعًا من الأراضي منذ بداية العام.
وتعكس تلك التطورات والتغييرات المستمرة في خريطة السيطرة الميدانية على الأراضي الأوكرانية وكورسك الروسية، وعدم تمكن أي طرف من فرض وقائع ميدانية على الأرض حتى اللحظة، رغم دخول الحرب الروسية الأوكرانية عامها الثالث؛ توازن القوى ميدانيًّا وفق قواعد الاشتباك الحالية؛ إذ إن الدعم العسكري التكنولوجي الغربي المقدم لأوكرانيا من جهة، وما حظيت به روسيا من صواريخ ومسيرات من إيران وكوريا الشمالية من جهة أخرى، لم يُمكِّن طرفي الصراع من قلب ميزان المعادلة، بل إن الدفة تميل لصالح الكرملين بشكل نسبي؛ لتأتي موافقة البيت الأبيض على استخدام أوكرانيا للسلاح الغربي لضرب عمق الأراضي الروسية؛ ليعكس إدراك الغرب لحقيقة ضعف قدرة كييف على إحداث تغيير ميداني في ظل قواعد الاشتباك الحالية، مع نجاح القوات الروسية في صد الهجوم الأوكراني المضاد واستعادة المناطق التي فقدتها موسكو خلال الاجتياح الأوكراني لكورسك أغسطس الماضي.
تحركات إدارة بايدن والقوى الغربية قبل تنصيب ترامب:
ومثَّل سماح الرئيس بايدن لكييف بضرب العمق الروسي، تحولًا في طبيعة الصراع بين روسيا والغرب؛ ويبدو أن لهذه الخطوة التصعيدية أبعادًا متعددة تتعلق بالسياسة الأمريكية وقرب تنصيب الرئيس المنتخب ترامب في الـ20 من يناير المقبل من جهة، ومحاولات الحد من التقدم الروسي على خطوط التماس والرد على دخول كوريا الشمالية على خط الصراع من جهة أخرى.
فطالما كان المسؤولون الأمريكيون يخشون من أن استخدام أوكرانيا لصواريخ أتاكمز ضد الأراضي الروسية، قد يدفع الرئيس بوتين إلى اتخاذ إجراءات عسكرية انتقامية ضد الولايات المتحدة وشركائها في حلف شمال الأطلسي، أو قد تنفلت الأوضاع وتذهب باتجاه حرب نووية عالمية؛ في ظل انتشار الرؤوس الحربية النووية في بيلاروسيا وألمانيا.
وبالنظر إلى تصريحات سابقة لمستشار الأمن القومي الرئاسي الأمريكي “جيك سوليفان” قال فيها “إن واشنطن مع حلفائها سترد على موسكو بقرارات سياسية منسقة، على مشاركة جيش كوريا الشمالية في الأعمال العدائية في منطقة العمليات العسكرية الخاصة”. (مركز المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة).
فيمكن القول: إن الولايات المتحدة والقوى الغربية قد تنظر إلى اتفاقية التعاون الإستراتيجي الشامل بين موسكو وبيونغ يانغ، كمصدر تهديد للمصالح الغربية في شرق آسيا وشرق أوروبا، في ظل انتشار عسكري أمريكي كثيف في تلك المناطق؛ وتأتي خطوة موافقة باريس ولندن أيضًا على استخدام كييف صواريخ سكالب الفرنسية، وستورم شادو البريطانية، في إطار الرد الجماعي الغربي على التحالف الروسي الكوري الشمالي.
كما يعكس التصعيد الغربي اتجاه روسيا؛ قلق واشنطن من دخول بكين على خط التحالف الشرقي الجديد، في ظل إعلان الرئيسان بوتين وشي في ديسمبر 2021م، عن شراكة بلا حدود بين موسكو وبكين، وبحسب مراقبين؛ فإن الخطوة الأمريكية المفاجئة، تأتي كمحاولة من إدارة بايدن لوضع عراقيل صعبة أمام أي خطوات سريعة، يمكن أن يتخذها الرئيس المنتخب “دونالد ترامب” فور تسلمه منصبه رسميًا في يناير المقبل.
وفي تقديري: أستبعد ذلك التصور؛ نظرًا لارتباط القرار الأمريكي التصعيدي الأخير، بسياسات الولايات المتحدة ككل التصعيدية اتجاه قوى الشرق، سواء روسيا أو الصين أو كوريا الشمالية؛ فالأمر لا يتوقف على قرار إدارة أمريكية على وشك المغادرة، وإنما يتعلق بهدف الولايات المتحدة الإستراتيجي في إضعاف خصومها والحفاظ على مكانتها كقوة عظمى أحادية في النظام الدولي.
وفيما يتعلق بالموقف الأوروبي بعد هذا التطور الأمريكي؛ فتزداد الضغوط على حكومة المستشار الألماني “أولاف شولتس” في الأسابيع الأخيرة من عمرها، بشأن الدعم المقدم إلى أوكرانيا، وحتى الآن؛ يتمسك شولتس الذي دعا إلى تصويت على الثقة بحكومته في 16 ديسمبر المقبل يُتوقع أن يخسره، برفض تسليم صواريخ توروس ألمانية الصنع وبعيدة المدى إلى كييف. (المشهد).
رغم موافقة شريكه في الائتلاف الحكومي “حزب الخضر”، والدعوات المتكررة إلى ذلك من حزب المعارضة الرئيس “المسيحي الديمقراطي” الذي يتصدر استطلاعات الرأي للفوز بالانتخابات المقبلة، التي يُفترض أن تُجرى في 23 فبراير المقبل؛ فالقرار الألماني منقسم بشكل كبير حيال الصراع الروسي الأوكراني، ويتأثر بالشارع الألماني الذي يرى جزءًا كبيرًا منه، ضرورة حياد ألمانيا عن الصراع الدائر حاليًا؛ إلا أن ما يجمع ألمانيا من مصالح مشتركة مع الولايات المتحدة ودور واشنطن الواضح في التأثير على الأحزاب السياسية الألمانية، يجرد برلين من قرارها السيادي بحسب مراقبين روس.
في حين ترى باريس أن الساحة الأوكرانية، فرصة للرد على الضربات التي تلقتها المصالح الفرنسية في القارة الإفريقية وفي منطقة الساحل تحديدًا؛ إذ إن التنافس الجيوسياسي بين فرنسا وروسيا والمتجذر بعمق في التاريخ، قد وصل إلى ذروة التصعيد منذ القرن التاسع عشر؛ حيث انخرطت الدولتان بقوة في لعبة جيوسياسية معقدة، فمن الصراعات التاريخية مثل غزو نابليون لروسيا إلى الأحداث المعاصرة مثل الأزمة الأوكرانية، شكل هذا التنافس؛ المشهد الجيوسياسي في أوروبا وخارجها.
وتؤكد التصريحات الأخيرة للرئيس الفرنسي “إيمانويل ماكرون” بشأن احتمال نشر قوات أوروبية في أوكرانيا على مدى إلحاح الوضع، ومع ذلك؛ فإن هذه الخطوة تخاطر بتصعيد التوترات مع روسيا، مما قد يؤدي إلى حرب فرنسية روسية أخرى بحسب مراقبين.
وخارج أوروبا؛ يشكل النفوذ الروسي المتوسع في إفريقيا والذي سهلته مجموعة فاغنر، تحديًا للهيمنة الفرنسية الطويلة الأمد في المنطقة، وتسلط التطورات الأخيرة بما في ذلك تحركات روسيا الإستراتيجية في منطقة الساحل، الضوء على ديناميكيات القوة المتغيرة بين هاتين الدولتين.
ولذلك فإن باريس، ستستخدم الساحة الأوكرانية وتطوراتها المختلفة لتحقيق أقصى الضغوط الممكنة على الكرملين، ردًّا على توسع النفوذ الروسي الكبير في القارة الإفريقية ودعم الكرملين الواسع لقادة دول الساحل الجدد المناوئين لباريس؛ في حين ترتبط السياسة البريطانية بالسياسة الأمريكية بشكل كبير منذ الحرب العالمية الأولى، سواء في أوروبا أو إفريقيا أو الشرق الأوسط؛ ولذلك لا عجب في التبعية البريطانية الكاملة للولايات المتحدة في ملف الأوكراني، والصراع الروسي الغربي.
إستراتيجية الكرملين في أوكرانيا وأوروبا:
وحملت تحذيرات الكرملين إشارة واضحة إلى أن موسكو ستتعامل مع التطور بأعلى مستوى من الجدية، وقال الناطق الرئاسي دميتري بيسكوف، “إن سماح الرئيس الأمريكي لكييف باستخدام صواريخ أمريكية بعيدة المدى لضرب الأراضي الروسية، من شأنه أن يصب الزيت على النار في النزاع بأوكرانيا”، مضيفًا “إذا تم بالفعل صياغة مثل هذا القرار وإبلاغ نظام كييف به، فهذه بالطبع جولة جديدة من التوتر النوعي، ووضع جديد نوعيًّا لتورط الولايات المتحدة في النزاع”. (اندبندنت عربية).
وأشار “إلى أن موقف روسيا بشأن هذه القضية تمت صياغته بشكل واضح للغاية ولا لبس فيه، ويجب أن يكون مفهومًا للجميع”، موضحًا “أن الضربات في عمق الأراضي الروسية لن يتم تنفيذها من قبل أوكرانيا، ولكن من قبل تلك الدول التي تمنح الإذن بذلك، وهذا يغير الوضع بشكل كبير”.
ووافق الرئيس الروسي على أساسيات سياسة الدولة في مجال الردع النووي، ومن بين أمور أخرى تنص الوثيقة على أن “روسيا تحتفظ بالحق في استخدام الأسلحة النووية ردًّا على استخدام أسلحة الدمار الشامل ضدها أو ضد حلفائها، واعتبر أيضًا أن العدوان على موسكو أو حلفائها من دولة غير نووية بدعم من دولة نووية يعتبر هجومًا مشتركًا”. (المركز المصري للفكر والدراسات الإستراتيجية).
تلك التصريحات والبنود، تعكس الحزم والتأكيد الروسي على حتمية الرد إزاء التصعيد الغربي؛ فيبدو أن الغرب لم يضع بعين الاعتبار احتمالية الرد الروسي خارج أوكرانيا، ردًّا قد يطال القواعد الأمريكية والقواعد التابعة لحلف شمال الأطلسي في أوروبا الشرقية؛ حيث إن استخدام صواريخ أمريكية طويلة المدى ضد أهداف في العمق الروسي، سيضع جميع الأطراف أمام إمكانية اتساع نطاق الحرب المستمرة منذ ألف يوم بشكل أكبر.
وربما تحولها إلى حرب نووية بين قوى عظمى، كما قد يؤدي إلى رد نووي وربما يدفع موسكو إلى تنفيذ تهديدات سابقة بتزويد دول أخرى بأسلحة بعيدة المدى يمكن استخدامها ضد الغرب؛ فالحرب الروسية الأوكرانية قد دخلت مرحلة جديدة من التعقيد، وتهدد بجر مناطق جديدة وربما هذه المرة خارج الأراضي الأوكرانية والروسية نحو دائرة الحرب.
ومع اقتراب رحيل إدارة بايدن وقدوم إدارة ترامب؛ بات واضحًا لجميع المراقبين للمشهد، أن روسيا والغرب يسابقون الوقت للسيطرة على أكبر رقعة جغرافية ممكنة من الأراضي، في ظل احتمالية سعي ترامب لعقد مباحثات بين موسكو وكييف بحسب مراقبين جمهوريين.
فأطراف الصراع؛ تسعى جاهدة للجلوس على طاولة المفاوضات (إذا ما عُقدت) وفي يدها مكاسب ميدانية تحقق توازن قوى على أقل تقدير، ويعكس التقدم الروسي السريع في دونيسك هذا التصور، بالنظر إلى نجاح القوات الروسية في السيطرة على أكثر من 880 كيلومترًا مربعًا من الأراضي الأوكرانية منذ بداية العام الجاري؛ فهزيمة القوى الغربية في أوكرانيا، ونجاح روسيا في السيطرة على مزيد من الأراضي، سيدفع القوى الأوروبية إلى التفاهم مع موسكو وربما السير بعيدًا عن التوجهات الأمريكية.
خطة ترامب لإنهاء الحرب الروسية الأوكرانية:
هناك اتهام للمرشح الجمهوري “دونالد ترامب” أنه لا يملك خطة واقعية لوقف الحرب كما يدعي خلال 24 ساعة، لكن الواقع يقول إن ترامب لديه رؤية (ولو محدودة) من وجهة نظر أنصاره لوقف الحرب، من خلال مجموعة من الخطوات أبرزها؛ تأجيل أي خطوات لانضمام أوكرانيا إلى حلف شمال الأطلسي الناتو، وهذه نقطة غير مرحب بها من قبل موسكو التي ترغب في اتفاق مع الولايات المتحدة على أن أوكرانيا لن تنضم أبدًا لحلف شمال الأطلسي، كما لن تبرم أي معاهدات عسكرية مع الولايات المتحدة، مع عدم توسع الناتو باتجاه الشرق وضم دول جديدة إلى الحلف.
إلى جانب ذلك؛ وقف إطلاق النار على طول خط المواجهة الحالي أثناء المفاوضات، فضلًا عن أن قطع المساعدات العسكرية والاقتصادية عن أوكرانيا سوف يجبرها على الجلوس إلى مائدة المفاوضات مع روسيا، التي كانت تقول دائمًا إنها مستعدة للجلوس للمفاوضات؛ لأن أوكرانيا هي التي انسحبت من المفاوضات التي كانت تركيا تستضيفها في مارس 2022م. (مركز الدراسات العربية الأوراسية).
وكان اختيار “دونالد ترامب” لنائبه على البطاقة الانتخابية “جي دي فانس” رسالة قوية لأوكرانيا قال خلالها، إنه مصمم على وقف إرسال السلاح إليها؛ لأن “جي دي فانس”، وهو سيناتور عن ولاية أوهايو في مجلس الشيوخ، ظل يعارض بقوة وشراسة إقرار صفقة المساعدات العسكرية الأخيرة لأوكرانيا، التي أُقرت في أبريل الماضي.
وهناك من يقول من الجمهوريين: إن الوضع المتأزم للجيش الأوكراني على الجبهة، مع التلويح بوقف إرسال السلاح والذخيرة، سوف يجبر كييف في نهاية المطاف على الجلوس إلى مائدة التفاوض مع موسكو؛ ويتزامن مع قرار قطع المساعدات عن أوكرانيا تشجيع روسيا على الجلوس إلى مائدة المفاوضات مع أوكرانيا، لكن وفق مستشاري الرئيس ترامب، فإن روسيا لو رفضت الجلوس مع أوكرانيا يمكن حينئذ التهديد باستئناف إرسال السلاح الأمريكي إلى أوكرانيا.
مدى واقعية خطة ترامب لوقف الحرب الروسية الأوكرانية وتداعياتها على تحالفات الولايات المتحدة الخارجية:
لا شك أن خطة ترامب لوقف الحرب الروسية الأوكرانية، غير واقعية وبعيدة عن طبيعة وأبعاد الصراع؛ إذ إن عدة عوامل وأبعاد متعددة قد دفعت روسيا وأوكرانيا نحو الصدام، منها ما هو تاريخي وديموغرافي وجيوسياسي، فالعلاقات الديموغرافية السكانية المتداخلة التي تربط الشعبين الروسي والأوكراني، وترسيم الحدود بين الدولتين الذي تم في العهد السوفيتي لدوافع اقتصادية بحتة دون النظر لأي أبعادٍ أخرى، قد لعبت دورًا في تفجير الصراع.
فالقيادة السوفيتية العليا بالكرملين، لم تتوقع يومًا انهيار الاتحاد السوفيتي؛ لذلك جاء ترسيم الحدود الروسية الأوكرانية على مراحل الأولى اقتصادية، تمثلت في إلحاق منطقة دونباس الصناعية بجمهورية أوكرانيا الاشتراكية السوفيتية لزيادة ناتجها المحلي الإجمالي، وزيادة مساهمتها في الاقتصاد السوفيتي؛ فضلًا عن أن ضم مناطق شرق نهر الدنيبر لأوكرانيا السوفيتية، جاء نتيجة للكثافة السكانية العالية في روسيا السوفيتية وقلة اليد العاملة في أوكرانيا السوفيتية خلال خطط ستالين الخمسية في عشرينيات وثلاثينيات القرن الماضي.
والثانية؛ في إطار سياسة تبادل الأراضي بين الجمهوريات السوفيتية، والتي اتبعها الزعيمان السوفيتان “نيكيتا خروشوف، وليونيد بريجنيف” كما أن الديموغرافيا الأوكرانية مقسمة إلى شرق نهر الدنيبر، والذي يقطنه أوكران من أصول روسية والذين شكلوا إقليم روسيا الصغرى خلال القرن السابع عشر؛ وغرب نهر الدنيبر والذي يقطنه أوكران من أصول متعددة أبرزها، من البولنديين والسلوفاك والهنغاريين وغيرهم، والذين شكلوا في القرن السابع عشر ما عُرف بالكومنولث البولندي الليتواني؛ وهذا البعد التاريخي والديموغرافي، لا تأخذه خطة ترامب بعين الاعتبار.
فضلًا عن البعد الجيوسياسي؛ إذ إن توسع حلف الناتو واقترابه من الحدود الروسية، مرتبط في العقل الجمعي الروسي بالاجتياحات المتتالية للأراضي الروسية القادمة من الغرب، مثلما حدث خلال حرب الشمال العظمى (1700م – 1721م) عندما حاولت السويد غزو الإمبراطورية الروسية.
فضلًا عن الغزو الفرنسي للإمبراطورية الروسية العام 1812م، ومحاولات ألمانيا لغزو الأراضي الروسية في الحرب العالمية الأولى 1914م والحرب العالمية الثانية 1941م، وبالتالي؛ فإن إستراتيجية الكرملين وبُعدها الجيوسياسي، تهدف لوضع حد لتوسع الناتو في أوروبا عبر أوكرانيا، ما سيدفع دول شرق أوروبا نحو التفاهم مع روسيا بدل التصعيد.
أما فيما يتعلق بتحالفات الولايات المتحدة الخارجية؛ فلا شك أن انتصار روسيا في الحرب ضد أوكرانيا وحلفائها الغربيين، سيدفع حلفاء الولايات المتحدة في شرق آسيا وآسيا الوسطى والقوقاز وشرق أوروبا، نحو إقامة علاقات ودية مع الكرملين وعدم التبعية الكاملة للغرب؛ إضافة إلى أن انتصار روسيا قد يشجع الصين على حسم قضية تايوان وصراعات بكين مع جيرانها في بحر الصين الجنوبي وبحر الصين الشرقي عسكريًّا.
بل قد يُمهد لاقتسام النفوذ ما بين الصين وروسيا في شرق آسيا وآسيا الوسطى ومنطقة المحيطين الهندي والهادئ، دون الولايات المتحدة، والتي سيهرع حلفاؤها إما للحياد أو التقارب مع روسيا والصين؛ ويمكن القول، إن الحرب الروسية الأوكرانية ليست مجرد صراعٍ بين دولتين (روسيا وأوكرانيا) يسير وفق تصور إدارة البيت الأبيض؛ بل إن هذا الصراع سينتج عنه تحولات جيوسياسية عالمية شرقًا وغربًا.
وفي تقديري؛ فإن ذلك الصراع تديره بشكل غير مباشر منظمات ومؤسسات وأجهزة الولايات المتحدة، مثل المجمع الصناعي العسكري، الذي حقق أرباحًا قياسية من مبيعات السلاح خلال السنوات الماضية، وبنك الاحتياط الفيدرالي والذي أعاد تنظيم العلاقات المالية والنقدية ما بين أوروبا والولايات المتحدة مع طرد روسيا من نظام سويفت؛ فضلًا عن المؤسسات الأمريكية الأخرى المستفيدة بشكل واضح من الحرب الروسية الأوكرانية.
الخلاصة:
– تدخل الحرب الروسية الأوكرانية فصلًا جديدًا من التصعيد؛ في ضوء السماح لأوكرانيا بضرب العمق الروسي وتحديث العقيدة النووية الروسية، والانسياق الأوروبي الكامل خلف الولايات المتحدة؛ إذ تُعد تلك التطورات مؤشرات تُنذر بمزيدٍ من التعقيد، وقرب الصدام المباشر ما بين الاتحاد الروسي ودول حلف شمال الأطلسي؛ وبالنظر إلى ارتباط الصراع الروسي الأوكراني بالحرب الباردة الجديدة، والتي تُعيد تشكيل توازنات القوى الدولية شرقًا وغربًا، فإن التعويل على تصريحات ترامب بحل الصراع الروسي الأوكراني مستبعدٌ، في ضوء المصالح الواضحة لعدة جهات في الداخل الأمريكي المستفيدة من استمرار الصراع.
المصادر:
مركز المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة
النشرة البريدية
كن على اطلاع بأحدث الدراسات والمقالات والفعاليات الفكرية