إدارة بايدن والحرب في أوكرانيا.. دراسة تحليلية لحسابات بايدن والأوروبيين في الأزمة الأوكرانية قبل تسلم رئاسة البيت الأبيض لترامب

إدارة بايدن والحرب في أوكرانيا.. دراسة تحليلية لحسابات بايدن والأوروبيين في الأزمة الأوكرانية قبل تسلم رئاسة البيت الأبيض لترامب

أربك فوز المرشح الجمهوري “دونالد ترامب” بالانتخابات الرئاسية الأمريكية في الـ5 من نوفمبر 2024م، حسابات الإدارة الأمريكية الحالية والقادة الأوروبيين، ودفع إدارة البيت الأبيض وحلفاءها في الناتو إلى انتهاج سياسات تصعيدية أكثر حدة إزاء القضايا الدولية والساحات العالمية المُشتعلة، وتحديدًا في أوكرانيا، بهدف قطع الطريق أمام ترامب وزيادة تعقيد المشهد؛ فخلال الأشهر الثلاث الأخيرة (أكتوبر ونوفمبر وديسمبر 2024م)، شهدت تلك الفترة تصعيدًا خطيرًا من قبل القِوَى الغربية اتجاه روسيا، ما يشي باحتمالية أن تتجه الأوضاع نحو المواجهة الشاملة بين الجانبين.

فمَا أبرز محطات الحرب الروسية الأوكرانية خلال العام 2024م؟ وكيف تعكس التفوق الروسي ميدانيًّا؟ ماذا عن حسابات بايدن والحلفاء الأوروبيين في ظل التفوق الروسي وقرب تنصيب ترامب؟ وكيف يمكن قراءة أبعاد ودوافع الخطوات الغربية التصعيدية؟ وكيف سيتعامل ترامب مع الحرب الروسية الأوكرانية؟ وفي ظل التطوُّرات الأخيرة كيف يمكن قراءة مستقبل الصراع والعلاقات بين الاتحاد الروسي والقوى الغربية؟

يسلِّط مركز “رواق” للأبحاث والرؤى والدراسات، في هذا التقرير عبر دراساته وتحليلاته المختلفة الضوء على التصعيد الغربي الأخير في الحرب الروسية الأوكرانية وحسابات القِوَى الغربية في ظل قُرب تنصيب ترامب وتعقُّد مشهد الصراع؛ في هذه السطور الآتية.

أبرز محطات الحرب الروسية الأوكرانية خلال العام 2024م:

شهد العام 2024م العديد من محطات التصعيد في الصراع الروسي الغربي والحرب بين موسكو وكييف، في ظل تطوُّرات سياسية وعسكرية شكَّلت محطات فارقة في مسار الصراع المستمرِّ بين الطرفين، فعلى الجانب السياسي؛ كان تأخُّر تقديم المساعدات الأمريكية لأوكرانيا في يناير 2024م، من أبرز فصول الصراع خلال العام.

حيث تعثَّرت حُزْمَة المساعدات في الكونجرس الأمريكي في ظل احتدام الخلافات بين الجمهوريين والديموقراطيين، ممَّا أثار تساؤلات حول قدرة أوكرانيا على مواصلة الحرب في ظل الهجمات والتقدُّم الروسي؛ لكن مع دخول ترامب معترك الانتخابات الأمريكية، ووضوح نيَّته في عدم مساندة كييف في حربها على روسيا؛ سارع الديموقراطيون إلى تمرير حُزْمَة مساعدات لزيلينسكي.

ولاحقًا جرى اتصال هاتفي بين الرئيس الأوكراني “زيلينسكي” والرئيس الأمريكي المنتخب “ترامب” وُصف بالممتاز، ومع اقتراب نهاية العام عُقد لقاء جمع زيلينسكي وترامب في باريس برعاية الرئيس الفرنسي “إيمانويل ماكرون” في حدث استهدف تعزيز الحُوَار السياسي بين الطرفين قُبيل إعادة افتتاح كاتدرائية نوتردام، ولكن ظلَّت رؤية ترامب للصراع كما هي. (فرنسا 24).

الرئيس الفرنسي ماكرون والرئيس الأمريكي المنتخب ترامب والرئيس الأوكراني زيلينسكي يلتقطون صورة قبل اجتماع في قصر الإليزيه الرئاسي في باريس في 7 ديسمبر 2024  

وعلى الصعيد الميداني: ومع فشل الهجوم الأوكراني المضاد والتقدُّم الروسي في الشرق والجنوب الأوكراني وزيادة استياء القادة الأوروبيين من أداء الجيش الأوكراني؛ قرَّر الرئيس الأوكراني “فولوديمير زيلينسكي” إعفاء القائد الأعلى للقوات المسلَّحة الأوكرانية “فاليري زالوجني” من منصبه وتعيين قائد القوات البرِّية الأوكرانية، الجنرال “أولكسندر سيرسكي” محله.

في ذلك الوقت كانت القوات الروسية تثبت تفوقًا ميدانيًّا وتحتفظ لنفسها باليد العليا في مسار الحرب، ما يعطي مبرِّرًا للخطوة التي أقدم عليها “زيلينسكي” حيث أن “زالوجني” كان متهمًا على نطاق واسع بالعجز عن تغيير مسار الحرب بشكل فعَّال لصالح أوكرانيا خلال عام 2023م، كما أنَّه لم يُحدث تقدُّمًا يُذكر منذ أن تقدَّمت القوات الأوكرانية في مقاطعة “خيرسون” أواخر عام 2022م.

غير أن إقالته أثارت قلقًا لدى غالبية الأوكرانيين وبصورة أكبر بين الجنود، خاصة مع الإعلان عن اسم قائد الجيش الجديد “سيرسكي” وبدء تولِّيه مهمَّته، حيث أن مبعث القلق لدى الجنود الأوكراني هو ما يُعرف عن القائد الجديد “سيرسكي” من عدم الاكتراث بالخسائر البشرية واعتبارها آثارًا جانبية ضرورية للحرب، خلافًا لسلفه “زالوجني”، الذي عُرف عنه اهتمامه بالجنود وعائلاتهم وتعزيز ثقافة حفظ الأرواح، ما أثَّر على معنوية الجنود الأوكران. (سكاي نيوز عربية).

وأتت إقالة “زالوجني” في ظل تزايد الإخفاقات الأوكرانية وتقدُّم روسي لافت في دونيسك وزابورجيا وخاركيف، لتبلغ ذروة النجاحات الروسية في توسيع خريطة السيطرة داخل مقاطعة خاركيف أوائل مايو 2024م، واحتواء التَّوغُّل الأوكراني على مقاطعة كورسك الروسية، وتقليص مساحات السيطرة الأوكرانية فيها، رغم النقص الحاد في القوات الروسية المتوفِّرة في كورسك عتادًا وعُدَّة.

فبحسب مراقبين أن الخطوة الأوكرانية باجتياح مقاطعة كورسك الروسية كان لها ثمن باهظ بالنسبة للجيش الأوكراني، ويبدو أنَّه لا يزال يدفع ضريبة هذه المغامرة إلى الآن، فوفقًا لبيانات وزارة الدفاع الروسية، فقدت أوكرانيا في “كورسك” أكثر من 23 ألف عسكري بين قتيل وجريح، في غضون شهرين، بما قد يُعدُّ دليلًا على صدق مخاوف الأوكرانيين بشأن الجنرال “سيرسكي” واستعداده للتضحية بموجات بشرية هائلة في مسرح الحرب. (روسيا اليوم).

التفوق الميداني للقوات المسلَّحة الروسية في أوكرانيا:

إضافة إلى ذلك: فقد أثبت الجيش الروسي قدراته على تجاوز خطوط الدفاع الأوكرانية والتَّوغُّل بعمق في داخل مقاطعة خاركيف ومناطق الجَنُوب الأوكراني؛ إذ لم تقتصر النجاحات الروسية في احتواء الهجوم الأوكراني على مقاطعة كورسك الروسية، وامتصاص الهجوم المضاد صيف العام 2023م.

بل كان من اللافت أيضًا: تركيز إستراتيجية الكرملين طيلة العام 2024م على توسيع نطاق التَّوغُّل، ومحاولة احتواء التكنولوجيا العسكرية الغربية الجديدة على طول خط التماس؛ وتلك التطوُّرات قد أدخلت الحرب الروسية الأوكرانية المرحلة الأكثر خطورة، بعد أن حقَّقت موسكو جانبًا من أكبر المكاسب فيمَا يتعلَّق بالسيطرة على الأراضي، وبعد أن زوَّدت الولايات المتحدة الجيش الأوكراني بمقاتلات إف – 16 في ظل وصف مراقبين غربيين أداء الجيش الأوكراني بالسلبي.

وذكرت مجموعة (أجنتستفو) الإخبارية الروسية في تقرير أن “روسيا سجَّلت أرقامًا قياسية أسبوعية وشهرية جديدة من حيث مساحة الأراضي التي سيطرت عليها في أوكرانيا”، وأوضحت أن القوات الروسية سيطرت على نحو 235 كيلومترًا مربَّعًا في أوكرانيا خلال الأسبوع الثالث من شهر نوفمبر 2024م، وهي مساحة قياسية أسبوعية لعام 2024م؛ وأضافت، أن القوات الروسية سيطرت على نحو 600 كيلومتر مربَّع في نوفمبر 2024م، نقلًا عن بيانات من مجموعة (ديب ستيت) التي تربطها صلات وثيقة بالجيش الأوكراني.

خريطة التقدم الروسي في الأراضي الأوكرانية خلال العام 2024م  

وفي ظل تلك التطوُّرات؛ صرَّح الرئيس الأوكراني “فولوديمير زيلينسكي” قائلًا: “إنَّه يعتقد أن الأهداف الرئيسية للرئيس الروسي فلاديمير بوتين هي احتلال منطقة دونباس بأكملها، التي تشمل منطقتي دونيتسك ولوهانسك، وطرد القوات الأوكرانية من منطقة كورسك التي تسيطر على أجزاء منها”.

فالمؤشِّرات الميدانية على الأرض طيلة العام 2024م تأتي في صالح الجيش الروسي، ومع تصريحات ترامب الرافضة لتقديم دعمًا أمريكيًّا لكييف، وقُرب تنصيبه في الـ20 من يناير الجاري؛ يزداد مشهد الحرب الروسية الأوكرانية تعقيدًا وتبحث الإدارة الأمريكية الحالية والحلفاء الأوروبيون عن إستراتيجية تمويلية وميدانية جديدة لأوكرانيا.

إستراتيجية بايدن اتجاه الصراع الروسي الأوكراني قبل تنصيب ترامب وأبعادها المختلفة:

يرى مراقبون غربيون: أنَّه في حالة انقطاع الدعم الأمريكي عن أوكرانيا؛ فإن احتمالية الانهيار السريع للقوات الأوكرانية وسيطرة روسيا على مساحات شاسعة من أوكرانيا -بل وحتَّى أوكرانيا كلِّها- أمر وارد بقوة، في ظلِّ اعتماد الجيش الأوكراني الكامل على الأسلحة والذخائر الأمريكية، بل ذهب بعض المراقبين الغربيين لأبعد من ذلك، محذِّرين من أن الكرملين لن يتوقَّف عند أوكرانيا، وأن مناطق مختلفة من أوروبا قد تشهد اجتياحًا روسيًّا قريبًا؛ أبرزها: مولدافيا وجورجيا.

وخلال المؤتمر الصحفي السنوي للرئيس الروسي “فلاديمير بوتين” في ديسمبر 2024م، أتت تصريحات الرئيس بوتين لتعكس ثقة موسكو المتجدِّدة بمسار الحرب في أوكرانيا والاقتصاد الروسي، في ظل التخبُّط الغربي، وكرَّر بوتين أهدافه القصوى للحرب في أوكرانيا، قائلًا: “إنَّها لن تنتهي إلاَّ عندما تحقِّق روسيا أهدافها المتمثِّلة في اقتلاع النازية وتجريد أوكرانيا من السلاح، وقبول كييف للحقائق الإقليمية الجديدة (أي ضم روسيا لأراضيها)”، وأكَّد أيضًا “أن أوديسا (أكبر مدينة أوكرانية متبقِّية على البحر الأسود) هي مدينة روسية”. (المركز المصري للفكر والدراسات الإستراتيجية).

فمن الواضح أن تلك التصريحات تعكس تهديدًا ضمنيًّا لتوسيع السيطرة العسكرية الإقليمية لروسيا في أوكرانيا؛ ومن المرجَّح أن تتمسَّك روسيا بالأراضي الأوكرانية التي ضمَّتها في المستقبل القريب لتفوُّقها في القوة البشرية على أوكرانيا، وتوسيع الصناعات الحربية، وتزايد الإرهاق الحربي في الغرب؛ إضافة إلى ذلك موقف ترامب من تمويل أوكرانيا.

ومن منظور الكرملين: قد يبدو انتخاب ترامب بمثابة فرصة ذهبية، فالانقسام في دعم الغرب لأوكرانيا أخذ في التزايد، وتماسك حلف الناتو يواجه تحدِّيات، واحتمالية إجراء محادثات مباشرة بين واشنطن وموسكو تبدو أكثر واقعية؛ وفي ظل المؤشِّرات الحالية وتزايد مخاوف إدارة الرئيس بايدن والحلفاء الغربيين، تسعى إدارة البيت الأبيض للبحث عن إستراتيجية جديدة للحرب الروسية الأوكرانية.

تحميل الناتو عبئ تمويل أوكرانيا:

في ظل موقف ترامب من الدعم الأمريكي لأوكرانيا، طرحت إدارة بايدن إستراتيجية جديدة تقوم على تحميل الحلفاء الأوروبيين في حلف الناتو عبئ تمويل الجيش الأوكراني؛ فعلى الرغم من أن حلف شمال الأطلسي (الناتو) يواصل إعادة تأكيد التزامه بتعزيز دفاعات أوكرانيا بشكل أكبر، إلاَّ أنَّه ليس هناك ما يضمن أن أوكرانيا ستحصل على دعم الغرب هذا العام بنفس الطريقة التي كان عليها في الأعوام السابقة، في ظل تشكيلة فريق ترامب الجديدة.

وبالرغم من تصريحات قادة حلف الناتو، بأن الحلف سيواصل تزويد أوكرانيا بمساعدات عسكرية واقتصادية وإنسانية كبيرة، في حين حدَّد العديد من أعضاء الناتو خططًا لتقديم حزم دعم إضافية لكييف، ولا شك أن مثل هذه التحرُّكات ستسمح لأوكرانيا بمواصلة القتال، رغم أنَّها قد تُخلِّف تأثيرًا خطيرًا على الاقتصاد الأوروبي، إلاَّ أن المشهد الحالي يهيمن عليه التخبُّط واحتدام الخلافات بين الشركاء في الناتو، مع موقف إدارة ترامب المقبلة من الصراع.

وقد دعا مراقبون أمريكيون، للاستفادة من الأصول الروسية المجمَّدة لدى الاتحاد الأوروبي، وزيادة مساهمة التكتُّل الأوروبي في دعم أوكرانيا؛ وعلى الرغم من الدعم الأمريكي الهائل لأوكرانيا، إلاَّ أن التقارير الاقتصادية الدولية، أشارت إلى أن الولايات المتحدة هي المستفيد الرئيسي من الصراع في أوكرانيا، الذي أثَّر بالفعل على اقتصادات العديد من الدول الأوروبية.

فوفقًا لمجلة فورين بوليسي؛ انكمش الاقتصاد الألماني في عام 2024م، في حين حقَّق الاتحاد الأوروبي نموًّا اقتصاديًّا صغيرًا إلى حدٍّ ما يُقدَّر بنحو 0.6% فقط، ومن ناحية أخرى، نما الاقتصاد الأمريكي بنسبة 5.2% ولكن على الرغم من ذلك، تعكس التحرُّكات الأمريكية، أن واشنطن ترغب في تحميل العبء الأكبر من تمويل الجيش الأوكراني على الحلفاء الأوروبيين. (العين الإخبارية).

وبما أن أوكرانيا لا تستطيع أن تستمرَّ في القتال ضد روسيا بمفردها، فإن أوروبا هي التي سوف تضطرُّ إلى تمويل كييف وتزويدها بالأسلحة، في ظل التطوُّرات الحالية، وذلك بحسب مراقبين أمريكيين؛ ولكن ليست كلُّ الدول الأوروبية على استعداد لاتِّخاذ مثل هذه التدابير، في ظل الانقسام الواضح في المواقف الأوروبية من الصراع.

حيث منعت المجر بالفعل، المساعدات المالية التي قدَّمها الاتحاد الأوروبي لأوكرانيا والتي تبلغ قيمتها 54 مليار دولار، في حين رفضت سلوفاكيا المجاورة حُزْمَة المساعدات العسكرية النهائية لكييف في نوفمبر 2023م، وبالتالي؛ إذا قامت بودابست وبراتيسلافا بشكل غير مباشر بتخريب جهود الاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي، فإن وظيفة المنظَّمتين تصبح مشكوكًا فيها إلى حدٍّ ما.

ولكن هذا لا يعني، أن ما تسمِّيه روسيا (الغرب الجماعي) سوف ينهار، أو أنَّه سوف يتخلَّى عن أوكرانيا بالكامل، وبالرغم من تزويد الاتحاد الأوروبي أوكرانيا بصواريخ طويلة المدى ومضادَّات للطائرات، وظهورها في ساحة المواجهة العام الماضي 2024م؛ إلاَّ أن ذلك لم يؤدِّ إلى انتصار أوكرانيا السريع على روسيا، ولم يكن للهجمات الصاروخية على روسيا تأثير على الوضع على الأرض، بل على العكس من ذلك؛ رأينا طيلة العام 2024م، فقدان السيطرة الأوكرانية وتراجع خطوط الدفاع الأوكراني في مناطق الشرق والجنوب.

ومن وجهة نظر إدارة بايدن؛ فإن الاتفاق المحتمل بين أوكرانيا وروسيا مع تخلِّي أوكرانيا عن المقاطعات والمناطق التي ضمَّتها روسيا، سيمثِّل هزيمة جيوسياسية، لأنَّه سيسمح للكرملين بتعزيز صفوفه والاستعداد لجولة أخرى من القتال، في حين يكاد يكون من المؤكَّد أن كييف ستضطرُّ إلى التخلِّي عن بعض أراضيها لروسيا في ظل مساعي ترامب لإنهاء الصراع.

ويبدو أن المشهد الحالي يُشير إلى أن إدارة بايدن تدفع حلفاءها في الناتو إلى تمويل كييف وتسليحها من أجل منع روسيا من تحقيق أهدافها الإستراتيجية في الدولة الواقعة في أوروبا الشرقية، وخروج الولايات المتحدة من قضية تمويل أوكرانيا، ونتيجة لهذا؛ فإن الصراع سوف يستمرُّ، في حين سوف يضطرُّ دافعو الضرائب الأوروبيون إلى تحمُّل تكاليف دعم أوكرانيا، وهذه الإستراتيجية تتوافق بشكل كبير مع مساعي إدارة ترامب المقبلة في زيادة الإنفاق العسكري لدول الناتو.

التصعيد الميداني وزيادة تعقيد مشهد الحرب الروسية الأوكرانية:

إلى جانب محاولة تحميل الأوروبيين، بعبء تمويل أوكرانيا وخروج الولايات المتحدة من ذلك المِلَفِّ؛ تعمل إدارة بايدن أيضًا على تعقيد مشهد الصراع الروسي الغربي، والحرب الدائرة في أوكرانيا؛ فقد شهدت الأشهر الأخيرة من العام 2024م، تصعيدًا خطيرًا، تمثَّل في سماح إدارة بايدن لكييف باستخدام الصواريخ والسلاح الأمريكي في ضرب عمق الأراضي الروسية.

فوفقًا لصحيفة “نيويورك تايمز”، أكَّدت مصادر مطَّلعة أن الرئيس الأمريكي “جو بايدن” سمح لأوكرانيا باستخدام أسلحة أمريكية طويلة المدى ضد أهداف في عمق الأراضي الروسية في نوفمبر 2024م، وذلك عقب نشر كوريا الشِّمالية آلاف الجنود لمساعدة موسكو في الحرب ضد كييف، بحسب الدول الغربية الحليفة لأوكرانيا.

وسريعًا استخدمت كييف السلاح الغربي في استهداف عدَّة مواقع داخل الأراضي الروسية، حيث أشارت تقارير إعلامية روسية؛ إلى أن القوات الأوكرانية أطلقت صواريخ “أتاكمز” أمريكية الصنع في عمق أراضيها، بعد وقت قصير جدًّا من منحها الإذن بذلك من البيت الأبيض، وأفادت التقارير بأن منشأة عسكرية في “بريانسك” في غرب روسيا، على بعد حوالي 100 كيلومتر من الحدود الأوكرانية، تضرَّرت؛ كما ولم يقتصر الأمر على صواريخ “أتاكمز” فقط، حيث استخدمت كييف صواريخ “ستورم شادو”، التي زوَّدت بها بريطانيا أوكرانيا. (الجزيرة).

وفي ظل أوضاع القوات الأوكرانية الصعبة على طول خط التماس؛ فإن هناك مئات الأهداف العسكرية داخل غرب روسيا التي يمكن للقوات الأوكرانية ضربها وفقًا لمعهد دراسة الحرب في الولايات المتحدة؛ لتردَّ موسكو على ذلك، بشن ضربة ضد الأراضي الأوكرانية باستخدام صاروخ أوريشنيك الفرط صوتي، والذي قد أثار قلق القِوَى الغربية، نظرًا لتفاديه أنظمة الصواريخ المضادَّة والرادارات؛ كما وحذَّرت موسكو من الردِّ بشدَّة في كلِّ مرَّة تستخدم فيها كييف صواريخ غربية الصنع ضد أراضيها.

وبالرغم من قُرب تنصيب ترامب في الـ20 من يناير الجاري، كشف المتحدِّث باسم مجلس الأمن القومي بالبيت الأبيض “جون كيربي”، إنَّه يتوقَّع أن تعلن الولايات المتحدة مساعدات أمنية إضافية لأوكرانيا في الأيَّام المقبلة، وذكر كيربي أن المساعدات المتوقَّع إعلانها، تأتي بعد أن أعلنت واشنطن الأسبوع الماضي عن تقديم 5.9 مليار دولار من المساعدات العسكرية والمالية الإضافية لأوكرانيا.

فإدارة الرئيس الأمريكي الحالية “جو بايدن”، قد تحرَّكت خلال الأشهر الأخيرة في سياق يؤشِّر على الرغبة في استمرار الصراع وخروج الولايات المتحدة من مِلَفِّ تمويل أوكرانيا من جهة، وزيادة تعقيد مشهد الحرب الروسية الأوكرانية والعلاقات الروسية الأوروبية من جهة أخرى؛ ويمكن القول إن ذلك التحرُّك ينسجم مع السياسة الترامبية بشكل عام اتجاه الحلفاء في الناتو.

ترامب والحرب الروسية الأوكرانية:

لا شك أن تصريحات ترامب “بإيقاف الحرب الروسية الأوكرانية خلال 24 ساعة” بعيدة عن الواقعية وتتعارض مع مصالح أجهزة ومؤسَّسات الولايات المتحدة في الداخل الأمريكي؛ إذ لا يخفى على أحد أن المؤسَّسات الأمريكية، ولا سيَّما المجمَّع الصناعي العسكري الأمريكي، يُعدُّ أحد أكبر المستفيدين من استمرار الصراع في أوكرانيا.

حيث إن الصاروخ جافلين الأمريكي، والذي تنتجه شركة لوكهيد مارتن، كان السبب الرئيسي في فك الحصار الروسي عن العاصمة الأوكرانية كييف، بعد أن كانت توقُّعات الاستخبارات الأمريكية تذهب إلى أن الروس سوف يسيطرون على العاصمة الأوكرانية خلال ثلاثة أسابيع من بَدْء الحرب، إلاَّ أن الصمود الأوكراني يقف خلفه منتجات شركة لوكهيد مارتن وعلى رأسها صاروخ جافلين المحمول على الكتف، الذي تمكَّن من إصابة آلة الحرب الروسية المدرَّعة من دبَّابات حديثة وغيرها بأعطاب عدَّة.

هذا إلى جانب استفادة قطاع الطاقة الأمريكي من تأزُّم العلاقات الروسية الأوروبية على خلفية استمرار الحرب في أوكرانيا، ففي الوقت الذي كانت تنتظر فيه أوروبا من الولايات المتحدة، أن تقف إلى جانبها في أزمة الطاقة، تبيَّن لها أن حليفتها الولايات المتحدة تبيعها الغاز بأسعار مرتفعة أكثر بأربع مرَّات، وهذا ما دفع بعض القادة الأوروبيين لتوجيه اللوم إلى حليفتهم واتِّهامها بأنَّها تتربَّح من الأزمة.

والمثير هو أن الخلافات بشأن أسعار الغاز، عصفت بالبيت الواحد أيضًا، في ظل اتِّهامات موجَّهة لفرنسا ببيع الغاز الأمريكي لألمانيا بسعر أعلى من الذي تشتريه به؛ وأمام ما حقَّقته المؤسَّسات الأمريكية من أرباح أخذت في النمو نتيجة لاستمرار الحرب الروسية الأوكرانية؛ فإن خطَّة ترامب لوقف الحرب لا تزال غير واضحة، ولا يبدو أن ترامب قادر على توفير مصادر أخرى للمؤسَّسات الأمريكية للتربُّح في القريب العاجل.

كما وأن تصريح وزير الخارجية الروسي “سيرغي لافروف” بأن بلاده غير راضية عن مقترحات فريق ترامب بشأن القضية الأوكرانية، تُعقِّد من المشهد؛ ففي تصريح صحفي له، أوضح لافروف “أن موسكو لا تقبل مقترحات فريق ترامب بتأجيل عضوية كييف في حلف شمال الأطلسي (ناتو) لمدَّة 20 عامًا”، فضلاً “عن إرسال قوَّة حفظ سلام من القوات البريطانية والأوروبية إلى أوكرانيا”. (مركز الروابط للبحوث والدراسات الإستراتيجية).

وأكَّد أن بلاده كانت ولا تزال مستعدَّة للمفاوضات، لكن “لا يمكن الحديث إلا عن اتفاقيات موثوقة وملزمة قانونًا تقضي على الأسباب الجذرية للصراع وتحتوي على آلية تضمن استحالة انتهاكها”، وخلال حملته لانتخابات الرئاسة في الولايات المتحدة، تعهد ترامب بإنهاء الحرب الروسية الأوكرانية في “يوم واحد”.

وفي مطلع الشهر الجاري يناير 2025م؛ قال: “إن كييف ربما تتلقَّى مساعدات عسكرية أقل بمجرد تولِّيه منصبه”، متسائلاً “لماذا لا تتحمَّل أوروبا المبالغ نفسها التي تتحمَّلها بلاده”، ورغم حرصه على عدم الكشف عن الكثير من خطَّته لإنهاء الحرب، فإن تسريبات نقلتها وسائل إعلام غربية تقول إنَّها تقوم على الضغط على الجانبين الروسي والأوكراني على حدٍّ سواء، سواء بقطع المساعدات العسكرية عن كييف إذا لم توافق على المفاوضات، أو بتوسيع شحنات الأسلحة إليها إذا رفضت موسكو الجلوس على طاولة المفاوضات.

وعلى الرغم من أن مستوى العلاقات بين روسيا والولايات المتحدة خلال فترة ولاية الرئيس الأمريكي “جو بايدن” في البيت الأبيض، لا يمكن مقارنته من حيث الجوانب السلبية مع المرحلة المقبلة التي سيتولَّى ترامب الإشراف عليها؛ إلاَّ أن المشهد الحالي لا يؤشِّر على حدوث انفراجة قريبة في الصراع الروسي الغربي والحرب بين كييف وموسكو.

مستقبل العلاقات الروسية الغربية:

تُعدُّ المرحلة الصراعية الحالية بين الاتحاد الروسي والقوى الغربية، واحدة من مراحل العلاقات التي جمعت الجانبين طيلة قرون عدَّة؛ ففي حقب مختلفة من تاريخ العلاقات بين الجانبين، وقعت عدَّة صدامات مباشرة بين روسيا والقوى الغربية.

ونظرًا للطبيعية الجغرافية المشتركة؛ إذ تمتدُّ أوروبا من سواحل الأطلسي وحتَّى جبال الأورال في عمق الأراضي الروسية، إلى جانب حاجة أوروبا إلى الموارد والثروات الطبيعية التي تزخر بها الأراضي الروسية؛ فضلًا عن الديموغرافيا السكَّانية المشتركة والممتدَّة على طول السهل الأوروبي.

فإن الولايات المتحدة تُدرك حقيقة أن بمجرد انتهاء الصراع والأزمة الحالية ما بين أوروبا وروسيا، ستعود العلاقات بين الجانبين مجدَّدًا وتعود حالة التنافس الاقتصادي العادلة في الأسواق الأوروبية ما بين روسيا والولايات المتحدة، لتتفوَّق روسيا من جديد نظرًا للقرب الجغرافي، فقد كان أحد الأسباب المباشرة للأزمة الحالية زيادة العلاقات الاقتصادية (التجارية والصناعية والطاقية) الأوروبية والروسية على حساب المصالح الأمريكية في القارَّة؛ حيث لم تتمكَّن شركات الطاقة الأمريكية، من منافسة المشاريع الروسية في أوروبا منذ انهيار الاتحاد السوفيتي؛ وهاجم المسؤولون الأمريكيون المشاريع الروسية أكثر من مرَّة، ويبرز توجُّه سياسي في أوروبا يُدرك أبعاد الأزمة ودوافعها الحقيقية التي تقف خلف ما هو مُعلن، المتمثِّلة في تدمير العلاقات الاقتصادية الأوروبية الروسية.

فالاتصال الهاتفي الأوَّل منذ عامين، والذي جرى بين المستشار الألماني “أولاف شولتس” والرئيس الروسي “فلاديمير بوتين” لبحث الحرب الروسية الأوكرانية عقب الإعلان عن فوز ترامب في الانتخابات الأمريكية والذي أشعل غضبًا في حلف الناتو؛ يعكس بوضوح ضغوطًا داخلية في ألمانيا للبحث عن مخرج للأزمة الأخذة في التصعيد.

الخلاصة:

– أثار فوز المرشح الجمهوري “دونالد ترامب” في الانتخابات الرئاسية الأمريكية، قلق الإدارة الأمريكية الحالية والحلفاء الأوروبيين، في ظل تصريحات ترامب التصعيدية اتجاه حلفاء الولايات المتحدة، والرغبة المعلنة في إعادة صياغة العلاقات التحالفية بين واشنطن وأوروبا بما يضع (أمريكا أوَّلًا)؛ وفي ظل موقف ترامب من الحرب الروسية الأوكرانية ودور واشنطن في تمويل كييف، وضعت إدارة بايدن عدَّة إستراتيجيات؛ أبرزها: زيادة تعقيد الأزمة وتحميل الأوروبيين بعبء تمويل أوكرانيا، وعلى الرغم من تصريحات ترامب عن الحرب الروسية الأوكرانية وقدرته على وقف الحرب خلال 24 ساعة؛ إلا أنَّها لا تتجاوز الحملة الانتخابية فقط، في ظل مصالح حيوية وإيرادات قياسية حقَّقتها المؤسَّسات الأمريكية من الصراع، ويبدو أن الصراع الدائر حاليًّا لن يشهد انفراجة قريبة، في ظل تعارض الرؤى والأهداف بين روسيا والقوى الغربية.

المصادر:

فرنسا 24.

سكاي نيوز عربية.

روسيا اليوم.

المركز المصري للفكر والدراسات الإستراتيجية.

العين الإخبارية.

الجزيرة.

مركز الروابط للبحوث والدراسات الإستراتيجية.