تحديات سوريا بعد سقوط النظام ودلالة توقيت ترسيم الحدود البحرية مع تركيا
تحديات سوريا بعد سقوط النظام ودلالة توقيت ترسيم الحدود البحرية مع تركيا
بعد سقوط نظام بشار الأسد في سوريا، دخلت البلاد مرحلة انتقالية حساسة تعيد فيها تشكيل هويَّتها السياسية والاجتماعية والاقتصادية؛ هذه المرحلة، التي تلي أكثر من عقد من الصراع الدامي، تتطلَّب تركيزًا كبيرًا على إعادة بناء الدولة وتعزيز الاستقرار الداخلي.
ومع ذلك، وفي غضون أيَّام قليلة من سقوط النظام، أعلن وزير النقل والبنية التحتية التركي، عبد القادر أورال أوغلو، أنَّ بلاده تعتزم بدء مفاوضات مع سوريا لترسيم الحدود البحرية في البحر المتوسِّط، هذا التصريح، وإن كان يبدو بريئًا من الناحية القانونية؛ إلاَّ أنَّه يثير تساؤلات حول توقيته وأهدافه، خاصة في ظلِّ الظروف الصعبة التي تمرُّ بها سوريا.
سوريا في مرحلة انتقالية: التحدِّيات والمهام:
شرعية الثورة وحكومة تسيير الأعمال:
بعد سقوط النظام السوري، أصبحت سوريا تُدار من قبل ما يُعرف في الأدبيات السياسية بـ”شرعية الثورة”، وهي حكومة مؤقَّتة تُشبه حكومة تسيير الأعمال. مهمَّة هذه الحكومة ليست إبرام معاهدات دولية أو إقليمية، بل توفير الأمن للمواطنين، وتأمين الاحتياجات الأساسية، وإعادة تشغيل القطاعات الحيوية. بالإضافة إلى ذلك، عليها كسب ثقة المجتمع الدولي لإعادة فتح البعثات الدبلوماسية في دمشق، ممَّا يُعكس قبولاً دوليًّا للمرحلة الانتقالية.
صياغة دستور جديد:
من أهمِّ مهام المرحلة الانتقالية تشكيل لجنة دستورية تضمُّ خبراء قانونيين ودستوريين لصياغة دستور جديد. هذا الدستور يجب أن يُحدِّد طبيعة النظام السياسي القادم، سواء كان رئاسيًّا أم نيابيًّا أم شبه رئاسي، وأن يُحدِّد صلاحيات السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية. عملية صياغة الدستور ليست سهلة وقد تستغرق وقتًا طويلًا، خاصة في ظلِّ الانقسامات السياسية والاجتماعية التي خلفها الصراع.
الانتقال إلى شرعية النظام الجديد:
بعد صياغة الدستور وطرحِه للاستفتاء الشعبي، ستجري سوريا انتخابات لاختيار أعضاء السلطتين التنفيذية والتشريعية. هذه الانتخابات ستكون الخطوة الأخيرة في الانتقال من “شرعية الثورة” إلى “شرعية النظام السياسي الجديد”، الذي سيتولَّى مهمَّة إعادة بناء الدولة السورية(1).
توقيت التصريح التركي: لماذا الآن؟
البحث عن المصالح التركية:
تصريح وزير النقل التركي حول ترسيم الحدود البحرية مع سوريا يأتي في وقت تُعتبر فيه تركيا أنَّ مصالحها في البحر المتوسِّط يجب أن تُحسم بشكل سريع.
تركيا تسعى إلى تعزيز نفوذها في المنطقة، خاصة في ظلِّ التنافس مع دول مثل اليونان وقبرص على موارد الطاقة في البحر المتوسِّط.
استغلال الفراغ السياسي في سوريا:
سوريا، في مرحلتها الانتقالية، تُعاني من فراغ سياسي وتشريعي، حيث لا توجد حكومة ذات صلاحيات دستورية كاملة لإبرام معاهدات دولية.
هذا الفراغ يجعل سوريا عرضة للضغوط الخارجية، خاصة من دول مثل تركيا التي تسعى إلى تحقيق مكاسب سريعة.
التوقيت غير الملائم لسوريا:
بالنسبة لسوريا، فإنَّ الدخول في مفاوضات لترسيم الحدود البحرية في هذا التوقيت يُعدُّ سابقًا لأوانه، سوريا تحتاج إلى التركيز على تعزيز استقرارها الداخلي وإعادة بناء مؤسَّساتها قبل أن تبدأ في إبرام معاهدات إقليمية قد تُرتب عليها التزامات قانونية وسياسية في المستقبل(2).
كسب جيوسياسي تركي:
إنَّ التطوُّرات في المشهد بين الجانبين التركي والسوري بالحديث عن مُقترح إبرام اتفاقية لترسيم الحدود البحرية بين البلدين تُعيد إلى الأذهان تجربة تركيا السابقة بليبيا والسعي التركي نحو إيجاد موطئ قدم بمنطقة شرق البحر المتوسِّط، فقد تمَّ عقد اتفاقية ترسيم الحدود البحرية بين الجانبين التركي والليبي الذي تمثَّل في حكومة “الوفاق الوطني” بقيادة فايز السراج عام 2019، فالدولة التركية تستغلُّ الأوضاع السورية الحالية وحالة عدم الاستقرار التي تُعاني منها البلاد في المرحلة الراهنة ما بعد سقوط نظام “بشار الأسد” وتولِّي الحكومة الانتقالية الجديدة بقيادة “هيئة تحرير الشام” المدعومة من تركيا لتحقيق أكبر قدر من المكاسب الجيوسياسية بالمنطقة، حيث تكشَّفت أبعاد اقتصادية تركية بسوريا ومنطقة شرق البحر المتوسِّط، فعزم تركيا إبرام اتِّفاق ترسيم الحدود البحرية مع سوريا يُمهِّد الطريق للسعي نحو كسب العديد من المكاسب الجيوسياسية والاقتصادية بسوريا خلال المرحلة المقبلة، فوفقًا لهيئة المسح الجيولوجي الأمريكية فإنَّ منطقة حوض الشام من البحر المتوسِّط والتي تطلُّ عليها “مصر، لبنان، سوريا، إسرائيل، قبرص، تركيا” تحتوي على أكثر من 3000 مليار متر مكعَّب من الغاز الطبيعي ونحو ما يقرب من ملياري برميل من النفط، ومن ثمَّ فإنَّ هذا الاتفاق سيترتَّب عليه زيادة النفوذ التركي بالبحر المتوسِّط وتمكُّنها من التنقيب عن احتياطات طائلة من الغاز والنفط في المياه السورية، وعليه تحاول تركيا ترسيخ تواجدها بسوريا ومنطقة البحر المتوسِّط ووضعه في إطار قانوني يتمثَّل في عقد تلك الاتفاقية الثنائية بين البلدين، فقد يُحدث هذا الاتفاق تغييرًا جذريًّا في التوازنات الإستراتيجية في منطقة شرق البحر المتوسِّط، فهو من الممكن أن يمنح أنقرة حقوقًا بحرية إضافية قد تصل إلى 4000 كم مربَّع في المياه الإقليمية بالبحر المتوسِّط، بالإضافة إلى أنَّ هذا الاتفاق سيكون جزءًا من إستراتيجية تركية أوسع بسوريا ستشمل مشاريع في قطاعات النقل كالنقل الجوي والسكك الحديدية والاتصالات وقطاع الطاقة كنقل الكهرباء والاستثمار في الموانئ السورية، فذلك كلُّه يشير بصورة واضحة إلى رغبة تركيا في التحرُّك بشكل سريع للسيطرة على القطاعات الاقتصادية السورية بحثًا عن الطاقة والنفوذ بمنطقة شرق المتوسِّط(3).
تحدِّيات المرحلة الانتقالية في سوريا:
إعادة بناء الدولة:
سوريا تحتاج إلى إعادة بناء مؤسَّساتها السياسية والاقتصادية والاجتماعية بعد سنوات من الصراع.
هذا يتطلَّب جهودًا كبيرة وموارد ضخمة، بالإضافة إلى دعم دولي لضمان نجاح عملية الانتقال.
تعزيز الأمن والاستقرار:
من أهمِّ التحدِّيات التي تواجه سوريا في مرحلتها الانتقالية هي تعزيز الأمن والاستقرار.
هذا يتطلَّب نزع سلاح الفصائل المسلَّحة وإعادة تأهيل العناصر الأمنية لضمان حماية المواطنين.
إعادة بناء النسيج الاجتماعي:
الصراع في سوريا ترك انقسامات عميقة في النسيج الاجتماعي. إعادة بناء هذا النسيج يتطلَّب جهودًا كبيرة لتعزيز المصالحة الوطنية وبناء الثقة بين مختلف المكوِّنات الاجتماعية(4).
تداعيات التصريح التركي على سوريا:
الضغوط السياسية:
تصريح تركيا حول ترسيم الحدود البحرية يضع سوريا تحت ضغوط سياسية، خاصة في ظلِّ عدم وجود حكومة ذات صلاحيات دستورية كاملة. هذا قد يؤدِّي إلى تفاقم التوتُّرات بين البلدين.
التزامات قانونية مستقبلية:
الدخول في مفاوضات لترسيم الحدود البحرية في هذا التوقيت قد يُرتب على سوريا التزامات قانونية وسياسية في المستقبل، ممَّا قد يُعيق عملية إعادة بناء الدولة.
التأثير على العلاقات الدولية:
تصريح تركيا قد يؤثِّر على علاقات سوريا مع الدول الأخرى، خاصة في ظلِّ التنافس الإقليمي على موارد الطاقة في البحر المتوسِّط(5).
مواقف رافضة:
تبقى صفقة ترسيم الحدود البحرية بين سوريا وتركيا أثارت قلق العديد من الدول نظرًا لطبيعة منطقة حوض البحر المتوسِّط الغنية بالنفط، وبالأخص الدول المجاورة لتركيا لأنَّها ستعزِّز من النفوذ التركي بالمنطقة على حساب تلك الدول، فعقب هذا الإعلان من الجانب التركي أعربت كلٌّ من اليونان وقبرص عن رفضهما لهذا المُقترح كما حدث عند الاتفاق التركي مع حكومة غرب ليبيا، وقد رأوا أنَّ إتمام هذه الصفقة يُعني إهمال الحقوق السيادية لكلٍّ منهما وبذلك انتهاك القانون الدولي، وعليه ستقوم اليونان بالضغط على الاتحاد الأوروبي لوقف جهود تركيا كما أنَّها قد تعمل على تعزيز تحالفاتها مع قبرص وإسرائيل لمواجهة المناورات التركية وخطواتها المتزايدة لزيادة نفوذها بالمنطقة.
كذلك نرى أنَّ الخطوات التركية في تعزيز علاقاتها مع الحكومة الحالية بسوريا وسعيها الدؤوب نحو زيادة نفوذها بالأراضي السورية والسيطرة على أكبر قدر من ثرواتها يُشكِّل تحدِّيًا للنفوذ الإسرائيلي بسوريا ما قد يؤدِّي إلى تسارع وتيرة التَّوغُّلات الإسرائيلية بالداخل السوري لتقليل التدخُّلات التركية وكبح نفوذها المتزايد بسوريا.
أمَّا بالنسبة لأوروبا فإنَّها تُدرك أنَّ أمنها واستقرارها مرتبط بأمن واستقرار منطقة شرق البحر المتوسِّط كمنطقة خالية من الصراعات وكذلك أهمِّيتها في إيجاد بديل لها عن الغاز الروسي، وعليه فإنَّ إبرام هذا الاتفاق سيواجهه موقف أوروبي رافض لتلك الممارسات التركية المتزايدة بالمنطقة والتي باتت تُشكِّل خطرًا على المصالح الأوروبية بها، فضلاً عن أنَّ تزايد النفوذ التركي بتلك المنطقة سيشكِّل تحدِّيًا واضحًا للنفوذ الأمريكي والروسي بسوريا والمنطقة ككلٍّ(6).
سوريا تحتاج إلى التركيز على الداخل قبل الخارج:
سوريا في مرحلتها الانتقالية تحتاج إلى التركيز على تعزيز استقرارها الداخلي وإعادة بناء مؤسَّساتها قبل أن تبدأ في إبرام معاهدات إقليمية أو دولية. تصريح تركيا حول ترسيم الحدود البحرية يُعدُّ سابقًا لأوانه، وقد يُعرِّض سوريا لضغوط سياسية وقانونية في المستقبل. لذلك، على سوريا أن تتجنَّب الدخول في أيِّ مفاوضات إقليمية قبل أن تُدشِّن نظامًا سياسيًّا جديدًا يتمتَّع بصلاحيات دستورية كاملة(7).
المشروعية القانونية:
صرَّحت كلٌّ من اليونان وقبرص بعدم قانونية هذا الاتفاق المُقترح ومخالفته لقواعد القانون الدولي، حيث تُعدُّ اتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار لعام 1982 هي المرجعية القانونية في ترسيم الحدود البحرية بين كافة الدول الموقِّعة عليها، وبناءً عليه يرى بعض القانونيين أنَّه لابدَّ من الاتفاق بين الدول المجاورة عند رسم الحدود البحرية بطريقة متناسبة ومتساوية ولا يجوز البحث عن الثروات البحرية إلاَّ بعد التوافق حول أسلوب استغلال تلك الثروات بالإنصاف بين الدول المتلاصقة والمتقابلة معًا، وعليه فمن الممكن أن يواجه هذا التوجُّه عقبة تكمن في أنَّ تركيا رفضت عام 1982 التوقيع على تلك الاتفاقية الدولية لقانون البحار، وبالتالي لا يمكنها استغلال أيِّ ثروات طبيعية في المناطق الاقتصادية بشرق المتوسِّط، هذا بالإضافة إلى أنَّ الاتحاد الأوروبي قد يُدين هذا الاتفاق كما أدان اتفاق 2019، فقد أكَّد الاتحاد الأوروبي حينها أنَّه اتفاق ليس له أثر قانوني لانتهاكه حقوق الدول المجاورة لتركيا، وفي المقابل تؤكِّد تركيا على قانونية هذا الاتفاق وعدم مخالفته لقواعد القانون الدولي(8).
الخلاصة:
تسعى تركيا باستمرار لتحقيق مكاسب جيوسياسية تُعزِّز نفوذها في المنطقة، مستغلَّة كافة السبل والفرص المتاحة لتحقيق مشروعها الإقليمي. يتضح هذا التوجُّه من خلال مواقفها وتصريحات مسؤوليها، التي قد تبدو أحيانًا مراوغة وتتناقض مع أفعالها على أرض الواقع.
في السياق السوري، وعلى الرغم من تصريحات وزير النقل التركي التي أشارت إلى أنَّ إتمام أيِّ اتفاق مع دمشق سيعتمد على تشكيل حكومة دائمة وليس في الوقت الراهن، تُشير التحرُّكات التركية إلى عكس ذلك. فالوضع الهشُّ في سوريا بوجود حكومة انتقالية يمنح أنقرة فرصة سانحة لتعزيز نفوذها وتأمين مصالحها الإستراتيجية قبل أن تستقرَّ الأوضاع السياسية بشكل نهائي.
تركيا تُدرك أهمِّية الاستفادة من هذه المرحلة الانتقالية، حيث تعمل على التفاوض مع الجهات السورية المؤقَّتة لتأمين اتفاقيات طويلة الأمد تمنحها امتيازات إستراتيجية. هذا التوجُّه يهدف إلى قطع الطريق أمام أيِّ قوى دولية أو إقليمية أخرى تحاول تحقيق مكاسب مشابهة في سوريا. ويأتي ذلك في ظلِّ تنافس محموم على استغلال الموارد والبنية التحتية والموقع الجغرافي الحيوي لسوريا.
بالإضافة إلى ذلك، تستخدم أنقرة أدوات متعدِّدة لتحقيق أهدافها، منها القوة الناعمة من خلال المشاريع الاقتصادية وإعادة الإعمار، وكذلك القوة العسكرية عبر التواجد الميداني في شمال سوريا. تحاول تركيا ضمان أن تكون الشريك الأساسي في أيِّ ترتيبات مستقبلية تخصُّ سوريا، بما يتوافق مع رؤيتها لتعزيز نفوذها الإقليمي وفرض أجندتها السياسية.
رغم أنَّ تصريحات المسؤولين الأتراك قد تبدو كأنَّها تُخدم التهدئة أو التروِّي، إلاَّ أنَّ الواقع يُشير إلى أنَّ أنقرة تستغلُّ الفرص التي يُوفِّرها الوضع السوري غير المستقرِّ لتأمين موقعها في المعادلة الجيوسياسية للمنطقة. هذه التحرُّكات تؤكِّد رغبتها في تحقيق مكاسب إستراتيجية طويلة الأمد، سواء من خلال التفاهمات الثنائية مع الأطراف السورية أو من خلال تقليص فرص اللاعبين الآخرين في الوصول إلى أهدافهم.
في النهاية، يظهر أنَّ تركيا تعتمد نهجًا براغماتيًّا يستند إلى الاستفادة من اللحظات الحاسمة، محوِّلة الوضع الهشَّ في سوريا إلى فرصة ذهبية لتعزيز مشروعها الإقليمي وتأمين نفوذها في منطقة تعجُّ بالصراعات والتغيُّرات السياسية المتسارعة.
المصادر:
1_ nytimes
2_ swp-berlin
3_ mei.edu
5_ reuters
6_ ispionline
7_ crsreports
8_ مركز الروابط
9_ مركز رع
النشرة البريدية
كن على اطلاع بأحدث الدراسات والمقالات والفعاليات الفكرية