السياسة الإيرانية إقليميًّا ودوليًّا.. دراسة تحليلية للدور الإيراني المتوقع على المسرح الدولي في ظل خسارة أذرع محورية وعزوف أخرى عن الانخراط في الصراع الإقليمي
السياسة الإيرانية إقليميًّا ودوليًّا.. دراسة تحليلية للدور الإيراني المتوقع على المسرح الدولي في ظل خسارة أذرع محورية وعزوف أخرى عن الانخراط في الصراع الإقليمي
شهد المشروع الإيراني تطورات عدة من الداخل والخارج خلال العام 2024م، من ضربات إسرائيلية وأمريكية من جهة، وعزوف أذرع إقليمية محورية عن الانخراط في مشاريع طهران في المنطقة من جهة أخرى، وباتت أوراق القوة الإيرانية تتساقط واحدة تلو الأخرى، في ظل أحداث جسيمة ومتغيرات متلاحقة وسياسات ميدانية، تنبئ بتطورات كبيرة في المشهد السياسي العام للمنطقة بكل جوانبها وأوضاعها، وما ستؤول إليه نتائج المتغيرات السياسية فيها.
فكيف انهارت أوراق إيران في الشرق الأوسط واحدة تلو الأخرى؟ وكيف يمكن قراءة تزايد امتعاض الأذرع الإيرانية من سياسات طهران إزاء الحرب الإسرائيلية على المنطقة؟ ماذا عن أبعاد ودوافع الاستهداف الإسرائيلي الأمريكي للأذرع الإيرانية رغم المصالح المشتركة؟ وفي ظل التطورات الأخيرة، كيف يمكن قراءة السياسات الإيرانية الإقليمية والدولية في ظل خلافات متصاعدة في العلاقات الإيرانية والروسية؟
يسلط مركز “رواق” للأبحاث والرؤى والدراسات، في هذا التقرير عبر دراساته وتحليلاته المختلفة، الضوء على السياسة الإيرانية الإقليمية والدولية في ظل تراجع النفوذ الإقليمي وتدهور الأوضاع الاقتصادية الداخلية واستياء الأذرع الإيرانية من غياب دور طهران في الحرب الإسرائيلية على الشرق الأوسط، في هذه السطور الآتية.
تراجع المشروع الإيراني في الشرق الأوسط:
منذ العام 1979م، صاغت “إيران الخمينية” مشروعًا شرق أوسطيًا استعماريًا جديدًا، ذا توجهات معروفة وأهداف معلنة وغايات تسعى لتحقيقها، يقوم في مبادئه وخطوطه العريضة على مبدأ تصدير الثورة الخمينية إلى الدول العربية المجاورة للحدود الغربية لإيران، في الخليج ومنطقة المشرق العربي بهدف (نصرة المظلومين والدفاع عن حقوقهم والتزام أهدافهم) وفقًا للتصورات الإيرانية وما هو معلن إعلاميًّا؛ وهو: ما يعني في العلاقات الدولية صراحةً التدخل في الشؤون الداخلية للأنظمة السياسية ودول العالم، وإحداث قلاقل واضطرابات داخلية في الدول والمجتمعات العربية المحيطة بإيران، بحيث تتبع نظام ولاية الفقيه الذي أرساه الخميني، وهذا ما يخالف قواعد القانون الدولي الذي تحتكم إليه دول العالم في علاقتها الدبلوماسية والسياسية، ومراعاة مصالح شعوبها والتمسك باستقلالها السياسي والداعم له الاستقلال الاقتصادي.
حيث جاء مشروع المد الإيراني، بمفاهيم وأدوات تبتعد كثيرًا عن مفهوم العلاقات الطبيعية والمصالح المشتركة بين بلدان العالم، وامتدت وسائل المشروع إلى تشكيل محاور وقواعد وفصائل مسلحة وميليشيات مقاتلة، مع إعدادها ذهنيًا وسياسيًا وفكريًا لتكون الأدوات الفاعلة في تنفيذ أهداف المشروع الإيراني، عبر الإدارة العسكرية والأمنية للقيادات العليا في فيلق القدس والحرس الثوري الإيراني. (مركز الروابط للبحوث والدراسات الإستراتيجية).
وفي الشق الاقتصادي: هيمنت الميليشيات والجماعات الطائفية الموالية لإيران على العديد من موارد ومقدرات دول الجوار، أبرزها المعابر الحدودية العراقية والسورية وقمع محاولات التحرر من الهيمنة الإيرانية كما حدث في العراق العام 2011م و2014م، والضغط على صناع القرار في دمشق ولبنان.
ويمكن القول: إن طهران قد نجحت جزئيًا في تحقيق أهدافها الإقليمية طيلة العقود الأربعة الماضية، ويعود ذلك النجاح إلى دمج القوى الغربية “لإيران الخمينية” في مشاريع الهيمنة الأمريكية والإسرائيلية على المنطقة، فقد رأى صانع القرار الأمريكي أيديولوجية الدولة الإيرانية فرصة لإشعال سلسلة حروب أهلية داخلية، تفضي في النهاية إلى سقوط القوى العربية الإقليمية.
ومع نجاح السياسة الإيرانية، وتنظيم الولايات المتحدة للدور الإيراني والإسرائيلي والتركي في المنطقة، وضعت توجهات أمريكية إسرائيلية جديدة للاستئثار بالنفوذ في الشرق الأوسط، منها تقليص الدور الإيراني وتوسيع رقعة السيطرة الجغرافية الإسرائيلية في الأراضي العربية، وإنهاء النفوذ الإيراني في سوريا.
حيث كان تشويه المقاومة الفلسطينية واستخدام معركة طوفان الأقصى كمنطلق لحرب إسرائيلية شاملة على الشرق الأوسط، وتوجيه الآلة الإعلامية والقدرات العسكرية والاقتصادية للقوى الغربية، ودعم أمريكي تجاوز الـ18 مليار دولار، البداية لإعادة تشكيل المنطقة العربية والشرق أوسطية وفقًا للرؤية الأمريكية والإسرائيلية.
حيث شكلت تلك التطورات والخطوات الغربية والإسرائيلية منعطفًا مهمًا ومسارًا جديدًا في طبيعة الأوضاع التي تعيشها المنطقة العربية، ولتبدأ معها المساومات الإيرانية لتحقيق أكبر قدر من المنافع والمكاسب السياسية على حساب القضية الفلسطينية، في قبولها لسياسة التهدئة وعدم التصعيد ومنع امتدادات ساحات المواجهة تجاه العمق الإسرائيلي.
وذلك خلافًا لما أعلنته طهران سابقًا من دفع وإسناد لحقوق الشعب الفلسطيني في تحرير أراضيه، وهو الخطاب الشعبي الذي حاولت فيه التأثير على عواطف العديد من أبناء الشعوب العربية بإسنادها للقضية الفلسطينية المركزية عربيًّا وإسلاميًّا، ولكنها فشلت في محاولتها وانكشفت حقيقة أهدافها وتسويقها لغاياتها على حساب التضحيات الكبيرة التي قدمها أبناء الشعب الفلسطيني، في مواجهاته المستمرة مع القوات الإسرائيلية.
حيث كانت إيران أول من تملص من مبدأ “وحدة الساحات”، تاركةً الذراع الأبرز حزب الله اللبناني والدولة اللبنانية ككل في مواجهة مفتوحة منفردة مع الكيان المحتل لم تسفر فقط عن تدمير حزب الله، بل طالت التداعيات الاقتصاد والبنية التحتية والمجتمع والدولة اللبنانية ككل، وتصاعد الامتعاض بين أبناء الطائفة الشيعية اللبنانية والداعمين لحزب الله، مع نجاح جيش الاحتلال الإسرائيلي في السيطرة على عدة مناطق وبلدات في الجنوب اللبناني ونزوح مئات الآلاف من الجنوب.
بالتزامن مع تصريحات الرئيس الإيراني “بزشكيان” في الـ24 من سبتمبر 2024م والتي قال فيها “لا نرغب في أن نكون سببًا لعدم الاستقرار في الشرق الأوسط، لأن عواقبه ستكون لا رجعة فيها”، مضيفًا “نريد أن نعيش في سلام ولا نريد الحرب”. (العربية).
حيث أكدت تلك التصريحات تملص إيران من شعارها (وحدة الساحات)، كما أن تصريحات بزشكيان تمثل توجهًا عامًا متسقًا مع برنامج الرئيس الجديد في الانفتاح على المنظومة الغربية عامة والولايات المتحدة خاصة، لتجنب تكرار سياسة الضغوط القصوى الترامبية السابقة، كما أتى الانهيار التام للنظام السوري وسقوطه السياسي وفرار “بشار الأسد” إلى حلفائه الروس، ليمثل الضربة الثانية الأقوى التي تتعرض لها إيران في المنطقة؛ فضلًا عن أن الضربة الثالثة للمشروع الإيراني تمثلت في رفض عدة فصائل وميليشيات عراقية موالية لإيران الانخراط في تطورات المشهد السوري خلال أواخر نوفمبر وأوائل ديسمبر 2024م، ما يعكس غياب الثقة بين إيران وأذرعها، ورغبة الميليشيات العراقية والتي يتبع بعضها تيارات سياسية في البرلمان العراقي الحفاظ على شعبيتها في الشارع العراقي وعدم إقحام البلاد في صراع لخدمة إيران.
أبعاد ودوافع الاستهداف الأمريكي الإسرائيلي للمشروع الإيراني رغم المصالح المشتركة:
لا شك أن إيران قد حققت للولايات المتحدة والكيان المحتل ما لم يكن بمقدورهم تحقيقه، حيث إن النظام الأيديولوجي ذا الصبغة الطائفية المذهبية التي قامت عليه إيران المعاصرة عقب ثورة العام 1979م كان اللاعب الأهم في تفكيك قوى إقليمية عربية محورية في المنطقة، مع الانقسام الداخلي في نسيج الشعوب العربية والإسلامية على أساس مذهبي، ليسود الصراع المذهبي في العالم العربي بما يحقق مصالح الولايات المتحدة وإسرائيل.
ولا يخفى على أحد أن الولايات المتحدة وإسرائيل قد ساهما بشكل كبير في توسيع النفوذ الإيراني في المنطقة، فالغزو الأمريكي للعراق العام 2003م قد سلم العراق بالكامل لإيران، مع ما رافق الاحتلال الأمريكي للعراق من تعاون واتصالات إيرانية أمريكية لتحديد مستقبل العراق عقب الحرب؛ حيث وظفت طهران كافة الأحزاب والشخصيات المعارضة لنظام الرئيس العراقي “صدام حسين” التي كانت تتخذ من إيران ملاذًا آمنًا لها، من أجل لقاء المسؤولين الأمريكيين، حيث عرضت طهران مساعدة القوات الأمريكية لملاحقة المسؤولين وقادة الجيش العراقي وجماعات المقاومة العراقية التي كبدت القوات الأمريكية خسائر فادحة. (آراء حول الخليج).
وأظهرت طهران اهتمامًا كبيرًا بإعادة بناء العراق الجديد ما بعد الحرب، بما ينسجم مع مشروعها الطائفي، كما حرصت على وصول الأحزاب العراقية “الحليفة لها” إلى حكم البلاد، حسبما ذكرت الكاتبة “هيلين كوبر” في صحيفة نيويورك تايمز حول التعاون الأمريكي الإيراني في العراق، لتصبح كل من إيران والولايات المتحدة المستفيدين من حرب العراق وسقوط نظام “صدام حسين”.
ويرى مراقبون أن انقلاب الحوثيين في اليمن وسيطرتهم على صنعاء وعدة محافظات ومناطق يمنية في 21 سبتمبر 2014م تم بناءً على تفاهمات أمريكية وإيرانية، بموجبها تبدي إيران مرونة أكبر في مباحثات الملف النووي، ما مهد لإبرام الاتفاق النووي الإيراني في 2 إبريل 2015م.
وبالرغم من سنوات التعاون المشترك بين الولايات المتحدة وإيران لتدمير المنطقة العربية، إلا أن التطورات العالمية خلال العقد الأخير، والمتمثلة بصعود الاتحاد الروسي والصين عالميًا، ووصول النفوذ الروسي إلى الشرق الأوسط وإفريقيا وأمريكا الجنوبية، والاجتياح الروسي لأوكرانيا مطلع العام 2022م، إلى جانب تعقد مشهد الصراع في بحر الصين الجنوبي والشرقي، ومحاولات بكين الحد من النفوذ الأمريكي في منطقة الهندوباسفيك؛ قد دفع الولايات المتحدة إلى الحد من دورها في الشرق الأوسط وتعزيز الحضور والتحركات الأمريكية في شرق أوروبا والقوقاز وآسيا الوسطى ومنطقة الهندوباسفيك، ولذا كان البحث عن صيغة لإعادة ترتيب خريطة النفوذ في الشرق الأوسط وهيمنة إسرائيل كقوة إقليمية أحادية على الإقليم، بعد نجاح الدور الإيراني في تفكيك القوى الإقليمية العربية من الداخل، هدف واشنطن خلال السنوات الأخيرة.
فالكيان المحتل قد تحرك في أكبر توسيع لحدوده السياسية في منطقة الشرق الأوسط منذ العام 1967م، على حساب الأراضي العربية في قطاع غزة والضفة الغربية والجنوب اللبناني والسوري، فضلًا عن الاستيلاء على المياه الاقتصادية لقطاع غزة ولبنان.
ورغم الامتعاض الإيراني وصراع النفوذ بين إسرائيل وإيران، إلا أن الولايات المتحدة لا تزال في حاجة إلى طهران لتهديد أمن الخليج العربي، وتعزيز تحالفاتها في المنطقة، فالحديث عن مواجهة إسرائيلية إيرانية أو حرب إيرانية أمريكية محض خيال، في ظل ما يجمع الدول الثلاث (الولايات المتحدة وإسرائيل وإيران) من مشاريع شرق أوسطية محورية لجميع الأطراف.
السياسة الإيرانية الإقليمية في ظل التطورات الأخيرة:
شكلت الميليشيات الشيعية الطائفية المسلحة الموالية لإيران، والتي هيمنت على الدولة السورية واللبنانية وزعزعت استقرار العراق واليمن، أوراق قوة في السياسة الإقليمية الإيرانية طيلة العقدين الماضيين، حيث كانت إيران بحكم الأمر الواقع تسيطر على القرار السياسي في أربع عواصم عربية، ولعبت الأذرع الإيرانية دورًا محوريًا في رسم سياسات طهران في الشرق الأوسط.
ومع التطورات الأخيرة، من تدمير قدرات حزب الله اللبناني، وسقوط النظام السوري، وغياب الثقة بين إيران وأذرعها في العراق، بات الموقف الإيراني أضعف إقليميًا من أي وقت مضى، بالرغم من استمرار أنشطة جماعة الحوثيين في اليمن واستهدافهم السفن التجارية في البحر الأحمر وزعزعة استقرار الاقتصاد العالمي؛ إلا أن العلاقات التي تجمع بين إيران والحوثيين تختلف عن ما يربط إيران بأذرعها الأخرى في سوريا والعراق ولبنان، فرغم أن الحوثيين وإيران يجمعهم المذهب الشيعي، إلا أن الطائفة الزيدية فرع مختلف عن المعتقدات الممارسة في إيران والعراق ولبنان، فإيران والحوثيون غير مرتبطين عقائديًا على غرار حزب الله اللبناني وغيرهم من الأذرع.
وفي ظل التراجع الإقليمي، تسعى طهران إلى التمسك بنفوذها العقائدي مع الميليشيات المسلحة في العراق، في ظل المساعي الرامية لتثبيت قواعد عقيدتها الأمنية والعسكرية والتزام مشروعها السياسي، عندما أكد المرشد الأعلى “علي خامنئي” يوم الـ8 من يناير 2025م على “ضرورة الحفاظ على الحشد الشعبي العراقي وأن الأدلة والبراهين تشير إلى أن الأمريكيين يحاولون تثبيت وتوسيع وجودهم في العراق، وهو ما يجب التصدي له بشكل جدي”. (مركز المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة).
وحديث المرشد “علي خامنئي” يعني أن إيران ما تزال متمسكة بنهجها وسلوكها في التعامل مع الأحداث القائمة في المنطقة العربية، وتحاول إظهار مبدأ القوة العسكرية والتعنت السياسي، وتؤكد عدم استيعابها لهزيمة وانتكاس مشروعها الإقليمي في سوريا والجنوب اللبناني، وتتمسك بالصورة الميدانية التي تعبر عن إستراتيجيتها في تحويل عديد من عواصم الأقطار العربية ومنها العراق إلى ساحة حرب ومسرح للعمليات العسكرية، تحقيقًا لأهدافها ومكتسباتها السياسية، والتي أثبت معظمها فشلها الذريع وعدم تمكنها من مواجهة الأحداث والتفاعل مع المتغيرات السياسية.
ويبدو أن السياسة الإقليمية الإيرانية خلال السنوات المقبلة ستتمحور حول إعادة بناء ميليشيات حزب الله اللبناني من جهة، وتعزيز الدور الإيراني في العراق من جهة أخرى، إلى جانب محاولة تأسيس ذراع علوي مسلح في المناطق ذات الغالبية العلوية في سوريا.
فالملاحظ انتهاج الميليشيات والتنظيمات المسلحة والخلايا النائمة الموالية لإيران في سوريا لتكتيك حرب الشوارع والعصابات، لا سيما في محافظات حمص واللاذقية وطرطوس، ليظهر ما يمكن وصفه بحزب الله السوري، مع تجنيب الأذرع الإيرانية الصدام المباشر مع إسرائيل أو الولايات المتحدة، إلا أن تصاعد الامتعاض العام بين أبناء الطوائف العلوية والشيعية في المنطقة يعكس غياب الثقة في إيران، ما يؤشر على أن طهران ستواجه صعوبات في إعادة بناء علاقاتها العقائدية مع العديد من الجماعات في الشرق الأوسط.
وفيما يتعلق بالعلاقات الإقليمية، فمن الواضح تصاعد حدة التصريحات السياسية والإعلامية الإيرانية اتجاه تركيا، فبالرغم من أن الخلافات التركية الإيرانية والتي طفت على السطح مع حرب إقليم كاراباغ الثانية العام 2020م بين أرمينيا وأذربيجان، إلا أن الدور التركي في سوريا يشي بمزيد من التأزم في العلاقات بين الجانبين، في ظل هيمنة الخلافات الحادة على أغلب القضايا والملفات التي تجمع إيران وتركيا.
وعلى مستوى العلاقات مع الدول العربية، فمع وصول ترامب إلى البيت الأبيض لبدء ولايته الجديدة، وبالنظر إلى تشكيلة فريق ترامب الرئاسي ومواقف أعضائه من إيران، ونظرًا لتجربة العلاقات الإيرانية العربية الأمريكية خلال فترة حكم ترامب السابقة، ففي تقديري ستعمل طهران على الحفاظ على العلاقات العربية الإيرانية، وإن بدت شكلية، لتجنب تكرار سيناريو الضغوطات القصوى خلال ولاية ترامب الأولى، في ظل التداعيات الاقتصادية التي طالت المجتمع الإيراني نتيجة لتأزم العلاقات العربية الإيرانية والعقوبات الغربية على إيران.
العلاقات الإيرانية الدولية:
مما لا شك فيه أن موقف إيران في أي مباحثات تتعلق بالبرنامج النووي مع القوى الغربية سيكون أضعف في ظل المستجدات الأخيرة في الشرق الأوسط، إذ لطالما عملت طهران على وضع المفاوضات مع القوى الغربية في إطار البرنامج النووي، دون التطرق لمشروع تطوير القوة الصاروخية الإستراتيجية والمسيرات الإيرانية أو الأذرع والوكلاء الإقليميين لإيران في الشرق الأوسط، والذي كان مطلبًا خليجيًا في ظل السلوك الإيراني المزعزع للاستقرار في المنطقة، وغياب الثقة في مشهد العلاقات الإيرانية العربية.
وطيلة العقدين الماضيين، عد المد الإيراني في الشرق الأوسط أحد دوافع ومحركات القوى الغربية للتوصل لاتفاق نووي مع إيران، في ظل تعقد مشهد العلاقات الغربية الروسية الصينية وزيادة تركيز واشنطن وحلفائها على شرق أوروبا ومنطقة الهندوباسفيك، كما أن سياسة الديمقراطيين ظلت تتمحور حول التهدئة والاحتواء، مع رفع جزء من العقوبات المفروضة على إيران تارة، وممارسة مزيد من الضغوطات تارة أخرى.
وفي ظل الخسائر الإيرانية للأذرع والوكلاء الإقليميين، وامتعاض الداخل الإيراني من هدر موارد الدولة على الأذرع والميليشيات طيلة أربعة عقود، فمن الواضح أن الموقف الإيراني في أي مباحثات تتعلق بالملف النووي سيكون ضعيفًا، وفي تقديري ستبدي طهران مرونة أكبر في أي مفاوضات مقبلة، للتخفيف من حدة الضغوطات والعقوبات الغربية.
كما أن العلاقات الإيرانية الآسيوية ستشهد مزيدًا من التطور، فرغم الخلافات الصاعدة بين الاتحاد الروسي وإيران، إلا أن البلدين قد أظهرا اهتمامًا متزايدًا بإبرام اتفاقية الشراكة الإستراتيجية الشاملة، فرغم التأخير والوقت الطويل الذي استغرقه إعداد الصيغة النهائية لاتفاقية الشراكة الإستراتيجية الشاملة بين كل من روسيا وإيران، والتي أعلن عن توقيع المسودة الخاصة بها في مطلع عام 2021م. (الجزيرة).
إلا أن الجانبين أكدا مؤخرًا أن هذه الاتفاقية سيتم توقيعها في 17 يناير 2025م، خلال زيارة الرئيس الإيراني “مسعود بزشكيان” للعاصمة موسكو، في ظل حاجة البلدين للبحث عن شراكات من شأنها التخفيف من وطأة العقوبات الغربية عليهما، وخلال الأعوام الثلاثة الأخيرة، اتخذت إيران خطوات عملية لتطوير علاقاتها بالصين، عبر الانضمام لمنظمة شنغهاي وتكتل البريكس الاقتصادي.
فضلًا عن اتفاقية الـ25 عامًا بين إيران والصين، والتي بموجبها تستثمر الصين نحو 400 مليار دولار في قطاعات الطاقة والتعدين الإيرانية، مقابل أن تمد إيران الصين بإمدادات ثابتة وبأسعار منخفضة للغاية من النفط، فمن الواضح أن العلاقات الإيرانية الصينية الروسية ستشهد مزيدًا من التطور والتعاون على كافة الأصعدة والمجالات، ويشكل الضغط الغربي على البلدان الثلاثة المحرك الأساسي لهذا التعاون.
الخلاصة:
– إن تطورات الصراع في الشرق الأوسط طيلة العام 2024م قد أصابت المشروع الإيراني بكارثة كبيرة وانهيار سياسي لمرتكزاته وأسسه الأمنية ومنافعه الاقتصادية، بعد أن عملت القيادات الميدانية للحرس الثوري وفيلق القدس على تحديد الأولويات، وإعداد البرامج والخطط الأمنية، والمساهمة في بسط نفوذها الميداني؛ إلا أن جميع هذه الجهود لم تمكن طهران من الحفاظ على النظام السوري الحليف، أو ميليشيات حزب الله اللبناني، وبقيت طهران تقيم مدى الضياع والانهيار والانكسار الذي أصاب فصائلها القتالية ووكلاءها وأعمدة أدواتها، وبدأت تدرك أن عليها أن تتعامل بواقعية وفهم واضح لمقتضيات المرحلة القادمة وملامح التغيير السياسي الذي سيكون الواجهة الميدانية التي ستؤطر مفاعيل السنوات اللاحقة في منطقة الشرق الأوسط والوطن العربي.
– في ظل الضغوطات الغربية على كل من إيران وروسيا والصين، وعودة ترامب إلى البيت الأبيض، إلى جانب تردي الأوضاع الاقتصادية في الداخل الإيراني، فيمكن القول إن السياسة الإيرانية الخارجية إقليميًا ودوليًا خلال الفترة المقبلة ستركز بشكل كبير على التهدئة وتعزيز الشراكات الاقتصادية مع كل من الاتحاد الروسي والصين الشعبية، بما يخفف من وطأة الخسائر الاقتصادية وامتعاض الداخل الإيراني من هدر موارد ومقدرات الدولة على الميليشيات والأذرع المسلحة في الدول الإقليمية، وفي تقديري ستتجنب طهران أي أزمات مع الدول العربية حاليًا، في ظل حاجة إيران لاحتواء خسائرها الاقتصادية المتفاقمة جراء تراجع مشروعها التوسعي في المنطقة.
المصادر:
مركز الروابط للبحوث والدراسات الإستراتيجية
مركز المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة
كلمات مفتاحية: المشروع الإيراني في المنطقة – سقوط النظام السوري – العلاقات الإيرانية العربية – البرنامج النووي الإيراني – الأذرع الإيرانية في المنطقة
النشرة البريدية
كن على اطلاع بأحدث الدراسات والمقالات والفعاليات الفكرية