الرياح المعاكسة.. كيف تشكلت سياسة ترامب تجاه الأكراد في سوريا؟

الرياح المعاكسة.. كيف تشكلت سياسة ترامب تجاه الأكراد في سوريا؟

تُعدُّ السياسة الأمريكية تجاه الأكراد في سوريا من أبرز وأعقد الملفات في الشرق الأوسط، وذلك في ظل التغيرات الجيوسياسية المستمرة والصراعات الإقليمية المعقدة. يأتي تناول هذا الموضوع في هذا السياق لفهم كيفية تأثير التحولات السياسية الأمريكية على العلاقات مع الأكراد، خاصة في ضوء التقلبات الإستراتيجية التي شهدتها هذه العلاقة على مرِّ السنوات منذ بدء دعم الولايات المتحدة للأكراد في سوريا لمحاربة تنظيم “داعش” مرورًا بتغيرات المواقف والتوجهات خلال فترة حكم الرئيس دونالد ترامب، وصولًا إلى الانسحاب المفاجئ للقوات الأمريكية من شمال سوريا في 2019.

أثار هذا التذبذب في السياسة الأمريكية العديد من التساؤلات بشأن الأهداف الإستراتيجية والمصالح الداخلية والخارجية التي تقف وراء هذه التحولات. أهمية تناول هذا الموضوع تكمن في فهم تأثير هذه السياسات على الاستقرار الإقليمي في منطقة مضطربة مثل سوريا، وتأثيرها المباشر على الأكراد الذين شكلوا حليفًا أساسيًّا في مكافحة “داعش”؛ كما أن هذه السياسة تسلط الضوء على العلاقة المعقدة بين الولايات المتحدة وتركيا، التي تعتبر الأكراد تهديدًا للأمن القومي بسبب الروابط بين بعض الفصائل الكردية في سوريا وحزب العمال الكردستاني.

وفي هذا السياق، يأتي هذا التقرير لتوضيح دوافع اتخاذ القرارات الأمريكية، والتأثيرات الجيوسياسية التي قد تترتب على ذلك، من خلال تحليل التغيرات في السياسة الأمريكية تجاه الأكراد، ويكتسب أهمية استثنائية بالنظر إلى تداعياته على المشهد الإقليمي؛ إذ إن التحولات في موقف واشنطن لم تؤثر فقط على الأكراد، بل أعادت رسم توازنات القوى في سوريا، وخلقت فراغات استغلتها أطراف إقليمية ودولية؛ كما أن فَهم المحددات التي شكلت نهج إدارة ترامب تجاه الأكراد يكشف عن العوامل التي يمكن أن تؤثر على سياسات الإدارات الأمريكية اللاحقة، لا سيما في ظل التنافس الدولي المتزايد على النفوذ في سوريا.

وفي سياق ذلك يسعى مركز “رواق” إلى تفكيك العوامل التي دفعت ترامب لاتخاذ قراراته المثيرة للجدل، من الضغوط الداخلية، إلى الحسابات العسكرية، والتوازنات مع تركيا وروسيا، والتحديات القانونية والدبلوماسية. ويُعدُّ هذا التحليل ضروريًّا لفهم أوسع لسياسات القوى الكبرى في الشرق الأوسط، وكيف تتشكل قراراتها بناءً على تداخل المصالح والنفوذ.

التحالف الأمريكي الكردي: شراكة مرحلية:

منذ سنوات، برزت العلاقة بين الولايات المتحدة وقوات سوريا الديمقراطية التي يقودها الأكراد كأحد أبرز المحاور في المشهد السوري المعقّد، فهذه الشراكة جاءت في سياق الحرب على تنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، حيث لعبت قوات سوريا الديمقراطية دورًا محوريًّا بدعم من التحالف الدولي بقيادة واشنطن.

ومع ذلك فإن هذه العلاقة ليست إستراتيجية بالمعنى التقليدي، بل تُعتبر شراكة مرحلية تحكمها مصالح مشتركة قصيرة الأمد. الولايات المتحدة ركزت على دعم الأكراد عسكريًّا ولوجستيًّا؛ لتحقيق هدفها الأساسي المتمثل في القضاء على التنظيم الإرهابي في المنطقة، وقد أسهم هذا التعاون في تحقيق نجاحات كبيرة، مثل استعادة السيطرة على المناطق التي كان يسيطر عليها داعش، وإضعاف البنية التنظيمية للجماعة المتطرفة، ولكن مع تراجع التهديد المباشر لداعش، بدأت طبيعة العلاقة تتغير بشكل ملحوظ.

من جهة أخرى: يسعى الأكراد إلى تحقيق مكاسب سياسية وإستراتيجية من خلال تعزيز موقفهم في الشمال السوري، بما في ذلك تعزيز حكم ذاتي أو حتى الاستقلال الجزئي. ومع ذلك، فإن واشنطن لا تدعم مثل هذه الطموحات بشكل واضح، خوفًا من إثارة غضب تركيا، الحليف الإقليمي والعضو في الناتو، التي تعتبر أي خطوة نحو الانفصال الكردي تهديدًا لأمنها القومي. هذه الديناميكيات المعقدة تجعل من الصعب على الأكراد الاعتماد بشكل كامل على الدعم الأمريكي على المدى البعيد. ففي حين أن واشنطن تحتاج إلى الأكراد لتحقيق أهدافها الأمنية الفورية، إلا أنها تظل ملتزمة بالتوازن الإقليمي وتتجنب اتخاذ مواقف قد تؤدي إلى تصعيد النزاعات مع دول الجوار. مع مرور الوقت، يتوقع أن تشهد العلاقة بين الجانبين تغييرات بناءً على التطورات السياسية والأمنية في المنطقة. ففي ظل تغير الأولويات الأمريكية وتزايد الضغوط الدولية، قد تجد واشنطن نفسها مجبرة على إعادة النظر في إستراتيجيتها، مما قد يؤثر على مستقبل التعاون مع الأكراد(1).

الخلفية التاريخية: الأكراد وحلم الدولة:

الأكراد الذين يُعتبرون واحدة من أكبر المجموعات العرقية في العالم دون دولة خاصة بهم، يعيشون في أربع دول رئيسية؛ هي: تركيا، سوريا، العراق، وإيران. وعلى مر التاريخ، حاول الأكراد من أجل الحصول على الحكم الذاتي والحقوق الثقافية واللغوية، لكن هذه الجهود قوبلت بقمع شديد من الحكومات المركزية.

وفي مطلع القرن العشرين، بدأت النخب الكردية التفكير في إقامة دولة مستقلة، باسم “كردستان”، وبعد هزيمة الدولة العثمانية في الحرب العالمية الأولى، وضع الحلفاء الغربيون المنتصرون تصورًا لدولة كردية في معاهدة سيفر عام 1920؛ إلا أن هذه الآمال تحطمت بعد ثلاث سنوات، إثر توقيع معاهدة لوزان التي وضعت الحدود الحالية لدولة تركيا، بشكل لا يسمح بوجود دولة كردية. وفي عام 1978، أسس عبد الله أوجلان حزب العمال الكردستاني، الذي نادى بتأسيس دولة مستقلة في تركيا. ثم بدأ الحزب الصراع المسلح بعد ست سنوات من تأسيسه ومنذ ذلك الحين، قتل أكثر من 40 ألف شخص وتدمير أكثر من 3 آلاف قرية وتهجير سكانها إلى غرب تركيا. وفي تسعينيات القرن الماضي، تراجع حزب العمال الكردستاني عن مطلب الاستقلال، وطالب بالمزيد من الاستقلال الثقافي والسياسي، مع استمرار القتال.

وفي عام 2012، بدأت محادثات السلام بين الحكومة التركية والحزب، بعد الاتفاق على وقف إطلاق النار لمدة سنة، وطلب من مقاتلي حزب العمال الكردستاني التراجع إلى شمالي العراق. ورغم اعتبار أنقرة أن تنظيم الدولة الإسلامية تمثل تهديدًا لها؛ إلا أنها منعت الأكراد من العبور والقتال في سوريا للتنظيم عندما اجتاح مدينة كوباني / عين العرب عام 2014. وفي سوريا، ومع اندلاع الحرب الأهلية في عام 2011، استغل الأكراد الفراغ الأمني وأعلنوا عن إقامة “إدارة ذاتية” في المناطق التي يشكلون فيها أغلبية، خاصة في شمال وشرق البلاد(1).

محددات التحالف الأمريكي الكردي في سوريا:

يُعتبر الأكراد واحدة من أكبر المجموعات العرقية في العالم التي لا تملك دولة خاصة بها. وعلى الرغم من الأزمات والحروب المتعددة التي شهدتها منطقة الشرق الأوسط، والتغيرات الكبيرة في ميزان القوى العالمي والإقليمي، ظلت المعضلة الكردية تتميز بعدة سمات ثابتة: أولًا: استمرار حلم ما يقارب 40 مليون كردي بتأسيس كيان مستقل أو إدارات ذاتية في الدول الأربع التي يعيشون فيها، وهي تركيا وسوريا والعراق وإيران، دون أن يكون لهم منفذ بحري. ثانيًا: ناضل الأكراد على مدار التاريخ من أجل الحصول على الحكم الذاتي والحقوق اللغوية والثقافية داخل الدول التي يعيشون فيها، لكن هذه الجهود واجهت قمعًا شديدًا من الحكومات المركزية. ثالثًا: على الرغم من الخلافات الكثيرة بين الدول الأربع، إلا أنها تتفق على التنسيق ضد الأكراد لمنع أي محاولة لتحقيق طموحاتهم القومية. رابعًا: استخدمت القوى الكبرى والإقليمية الأكراد كأداة في صراعاتها مع بعضها البعض لتحقيق أهداف معينة.

ومن أبرز الأمثلة على ذلك اعتماد التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة على الأكراد كمكون أساسي في الحرب ضد تنظيم داعش (3)؛ هذه المحددات جعلت المعضلة الكردية أداة مثالية للسياسة الخارجية الأمريكية، فمن خلال تسليح الأكراد في الدول التي يعيشون فيها، تمكنت الولايات المتحدة من زعزعة استقرار تلك الدول وإثارة الاضطرابات. ومع ذلك، كانت واشنطن حريصة على استغلال الأكراد دون منحهم القوة الكافية لتحقيق حلم دولتهم المستقلة. وبالتالي، فإن التحالف مع الأكراد لم يكن سوى شراكة مرحلية لتحقيق أهداف مرحلية، حيث استخدمت الولايات المتحدة الجماعات الكردية كجنود في العراق وسوريا لعقود، ثم توقفت عن دعمهم بمجرد انتهاء فائدتهم. هذه النتيجة يخشاها الأكراد، خاصة بعد أن اعتمدت عليهم الإدارات الأمريكية المتعاقبة، والتي اختلفت سياساتها تجاههم.

“باراك أوباما” الأب الروحي ومؤسس الدعم والتكوين:

بعد عقود من التهميش في ظل الحكومة السورية، أعلن الأكراد عن إقامة “إدارة ذاتية” في عام 2011، وذلك في أعقاب اندلاع الحرب الأهلية السورية وانسحاب قوات النظام من المناطق التي يشكلون فيها أغلبية في شمال وشرق البلاد؛ تمكنت الميليشيات الكردية التي تمثل حوالي 10% من سكان سوريا، من محاربة تنظيم داعش بدعم وتسليح من الولايات المتحدة. تألفت “قوات سوريا الديمقراطية” من جماعات تم تدريبها وتسليحها من قبل واشنطن تحت اسم “وحدات حماية الشعب”، وهي الفرع السوري لحزب العمال الكردستاني. يبلغ عدد مقاتليها الآن حوالي 100 ألف، وهم يسيطرون على ما يقارب 25 إلى 30% من الأراضي السورية، بما في ذلك معظم المناطق الواقعة شمال شرق نهر الفرات. كان قرار الولايات المتحدة بتسليح قوات سوريا الديمقراطية نقطة خلاف كبيرة في العلاقات الأمريكية التركية، خاصة منذ عام 2014، عندما تواطأت تركيا مع تنظيم داعش لمحاصرة مدينة كوباني الحدودية ذات الأغلبية الكردية. وسمحت أنقرة لمقاتلي التنظيم بعبور أراضيها للحصول على الحماية والإمدادات، بل وسمحت لهم بإطلاق النار على المواقع الكردية من داخل الأراضي التركية. بسبب عدم اهتمام تركيا بمحاربة داعش وتواطؤها معه، قررت إدارة أوباما العمل مباشرة مع المقاتلين الأكراد في خط المواجهة ضد الجهاديين. وقدمت الإدارة الأمريكية الأسلحة اللازمة لكسر حصار كوباني، وهي المعركة الحاسمة التي قيدت طموحات داعش وأدت في النهاية إلى هزيمته. ومع استمرار تركيا في دعم داعش، أرسلت الولايات المتحدة مستشارين عسكريين وقوات خاصة للعمل جنبًا إلى جنب مع الأكراد السوريين؛ بالإضافة إلى القتال ضد الإرهابيين، يحتجز المقاتلون الأكراد الآن آلافًا من مقاتلي داعش في مراكز احتجاز منتشرة في جميع أنحاء شمال شرق سوريا(4).

إدارة دونالد ترامب الأولى.. تحدي شعار: “أمريكا أولًا”:

تبنَّى ترامب خلال ولايته الأولى شعار “أمريكا أولًا”، الذي يدعو إلى تجنب الصراعات البعيدة وانسحاب القوات الأمريكية من مناطق الحروب والنزاعات. ومع ذلك، لم ينطبق هذا الشعار بشكل كامل على الوضع في سوريا، التي كانت واحدة من أكثر مسارح السياسة الخارجية الأمريكية فوضوية، ظهر ذلك من خلال قرارات ترامب المتناقضة بين الانخراط والانسحاب والهجوم. لم تتخذ الولايات المتحدة أي إجراء عسكري مباشر ضد نظام الأسد حتى أبريل 2017، عندما شنت إدارة ترامب هجومًا صاروخيًّا على قاعدة الشعيرات الجوية ردًّا على هجوم كيميائي في بلدة خان شيخون بمحافظة إدلب. وفي ديسمبر 2018، أمر ترامب بانسحاب القوات البرية الأمريكية، التي يتراوح عددها بين 2000 و2500 جندي، من سوريا، معتقدًا أن عمليات التحالف ضد داعش كانت ناجحة وأن الوجود الأمريكي في شرق سوريا لم يعد ضروريًّا. ومع ذلك، اعترض مسؤولون أمريكيون على القرار، مشيرين إلى أن التنظيم لا يزال ناشطًا وأن قوات سوريا الديمقراطية لن تتمكن وحدها من التعامل مع هذا التهديد. وبدلًا من الانسحاب الكامل، أعلنت الولايات المتحدة عن احتفاظها بقوة طوارئ أمريكية في المنطقة. في عام 2019، دافع ترامب عن قراره بسحب القوات الأمريكية من سوريا، قائلًا: “المعركة خسرناها منذ فترة طويلة، نحن لا نتحدث عن ثروة هائلة، نحن نتحدث عن الرمال والموت”. ومهد هذا القرار لانسحاب جزئي للقوات الأمريكية من شمال شرق سوريا، مما سمح لتركيا بشن غزو واسع النطاق أدى إلى مقتل ونزوح مئات الآلاف من السوريين.

وبعد وساطة أمريكية، تم التوصل إلى وقف إطلاق النار مقابل تنازل الأكراد عن أميال من الأراضي الحدودية لصالح الأتراك. ومع ذلك، حافظت الولايات المتحدة على وجود حوالي 900 جندي أمريكي في شرق نهر الفرات وفي منطقة خفض التصعيد على الحدود مع العراق والأردن. تتمثل مهامهم الأساسية في: الدفاع عن حقول النفط في شرق سوريا لحماية المصالح الأمريكية من داعش ونظام الأسد. منع عودة ظهور تنظيم داعش والجماعات المتطرفة الأخرى. تدريب وتجهيز قوات سوريا الديمقراطية لحراسة المعسكرات التي تضم مقاتلي داعش وعائلاتهم. قطع الطريق أمام تزويد إيران لحزب الله بالأسلحة عبر سوريا(5).

إدارة جو بايدن: الابتعاد والتجاهل:

كان من المتوقع أن تتبنّى إدارة جو بايدن موقفًا أكثر دعمًا للأكراد، خاصة في ضوء تاريخ بايدن كعضو في مجلس الشيوخ ونائب للرئيس، حيث قام بتوطيد علاقاته مع بعض المجتمعات الكردية في الشرق الأوسط. كما انتقد سياسات ترامب تجاه الأكراد، مما أثار توقعات بأن إدارته ستكون أكثر تعاطفًا مع طموحاتهم في شمال شرق سوريا. ومع ذلك، أدت الأزمات الاقتصادية والسياسية الداخلية في الولايات المتحدة، بالإضافة إلى المنافسة مع الصين والحروب في أوكرانيا وغزة، إلى تحويل انتباه الإدارة الأمريكية بعيدًا عن الأكراد. كما تجاهل بايدن انتهاكات الرئيس التركي للحقوق الإنسانية والمدنية للناشطين والسياسيين الأكراد، بما في ذلك عزل رؤساء البلديات الأكراد في المناطق ذات الأغلبية الكردية في تركيا واستبدالهم بمسؤولين معينين من قبل الحكومة التركية. علاوة على ذلك، عارض بايدن انتخابات الإدارة الذاتية الكردية المقررة في سبتمبر 2024، بحجة عدم استيفاء الشروط اللازمة لإجراء انتخابات حرة ونزيهة في سوريا. وبعد سقوط نظام الأسد، أجبرت إدارة بايدن الأكراد على التخلي عن ممتلكاتهم على الجانب الغربي من نهر الفرات، بما في ذلك مدينة منبج التي سعت تركيا للسيطرة عليها لفترة طويلة(6).

إدارة ترامب الثانية: تحدي الانسحاب الملح:

على الرغم من أن عودة ترامب إلى البيت الأبيض تثير تساؤلات حول كيفية دعم واشنطن للأكراد؛ إلا أن سياسته تجاه سوريا لا تختلف بشكل كبير عن سياسة بايدن، فكلاهما يسعى إلى إدارة حكومة في دمشق تتوافق مع المصالح الأمريكية، مع ضمان ألا تشكل هذه الحكومة تهديدًا لإسرائيل، الحليف الأكثر أهمية في المنطقة؛ كما يتفق الاثنان على ضرورة الحد من النفوذ الإيراني والروسي في سوريا، ومع ذلك، يكمن الفارق الرئيسي في نهج ترامب تجاه القوات الأمريكية على الأرض والدعم المقدم لقوات سوريا الديمقراطية، فبينما يؤكد ترامب على ضرورة الانسحاب من الصراعات البعيدة، فإنه يدرك أيضًا أهمية الحفاظ على وجود عسكري محدود في سوريا لحماية المصالح الأمريكية ومنع عودة داعش(7).

سيناريوهات محتملة للعلاقة بين ترامب والأكراد وتركيا:

تشير بعض المؤشرات إلى أن الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب لا يبدي اهتمامًا كبيرًا بما يحدث في سوريا، مع تأكيده المتكرر على رغبته في انسحاب القوات الأمريكية من المنطقة. ومع ذلك، تظل القضية السورية واحدة من أهم التحديات التي تواجه إدارته الثانية، ليس فقط بسبب تأثيرها على الاستقرار الإقليمي، بل أيضًا بسبب تداعياتها على الأمن العالمي. ومع تصاعد التوترات في المنطقة واستمرار التهديد الذي يمثله تنظيم داعش، يظل الدور الذي تلعبه القوات العسكرية الأمريكية في سوريا محوريًّا، ليس فقط في مكافحة الإرهاب، بل أيضًا في ضمان أمن إسرائيل وتوفير الدعم اللازم لها لتوسيع نفوذها في الأراضي السورية. وقد أكد وزير الدفاع الأمريكي السابق لويد أوستن، قبل انتهاء ولايته، على أهمية الحفاظ على الوجود العسكري الأمريكي في سوريا لضمان استمرار الاستقرار.

من جهة أخرى: تسعى أنقرة إلى تعزيز نفوذها في المنطقة من خلال التوصل إلى اتفاق مع إدارة ترامب يسمح بانسحاب القوات الأمريكية، مما يفتح الباب أمام تركيا لتنفيذ خططها في سوريا. في المقابل، تحاول القيادة الكردية تحويل المناطق التي تسيطر عليها قوات سوريا الديمقراطية إلى منطقة كردية مستقلة، على غرار حكومة إقليم كردستان في شمال العراق. ومع ذلك، فإن تحقيق هذا الهدف يبدو غير واقعي لعدة أسباب، أهمها أن أغلبية سكان شمال شرق سوريا ليسوا أكرادًا، بل يتكونون من خليط من العرب والمسيحيين والأقليات الأخرى. بالإضافة إلى ذلك، لا يدعم جميع الأكراد قوات سوريا الديمقراطية، خاصة أن هذه القوات تتبنّى أيديولوجية اشتراكية علمانية لا تتوافق بالضرورة مع توجهات الأكراد السنة المحليين. كما أن التجمعات الكردية في المنطقة متناثرة وغير متجاورة، مما يجعل إنشاء كيان كردي متماسك أمرًا صعبًا. في ظل هذا التباين في الأهداف والمصالح بين الولايات المتحدة وتركيا وقوات سوريا الديمقراطية، تبرز عدة سيناريوهات محتملة يمكن أن تحدد مسار إستراتيجية ترامب تجاه الأكراد في سوريا.

السيناريو الأول: الانسحاب الأمريكي لصالح تركيا:

أشار ترامب في إحدى تصريحاته إلى أن تركيا لعبت دورًا رئيسيًّا في إسقاط نظام الأسد من خلال تسليح المتمردين الذين قادوا الهجوم. وقال: “إذا نظرت إلى ما حدث في سوريا، ستلاحظ أن روسيا وإيران أصبحتا ضعيفتين، أردوغان رجل ذكي للغاية، أرسل رجاله إلى هناك بأشكال وأسماء مختلفة، وهؤلاء نجحوا في السيطرة على الوضع”. هذه التصريحات قد تمهد الطريق لسيناريو تتولّى فيه تركيا مسؤولية مكافحة الإرهاب في سوريا، مقابل إنهاء الدعم الأمريكي لقوات سوريا الديمقراطية. وفي هذه الحالة، قد تتولّى القيادة السورية الجديدة السيطرة على سجون داعش ومعسكرات الاحتجاز، مما يحد من الحكم الذاتي الكردي ويعزز النفوذ التركي في الشمال السوري. وفي حال عدم قدرة هيئة تحرير الشام على إدارة هذه السجون، قد يتم تشكيل إدارة تركية-عراقية مشتركة لهذا الغرض، خاصة أن غالبية المعتقلين الأجانب هم من العراقيين. ومع ذلك، يواجه هذا السيناريو عدة عوائق، أهمها أن هيئة تحرير الشام تفتقر إلى القدرات اللازمة للسيطرة على المناطق التي تسيطر عليها قوات سوريا الديمقراطية أو مواجهة تنظيم داعش. كما أن المؤسسة العسكرية الأمريكية، التي طورت علاقات قوية مع قوات سوريا الديمقراطية على مدى السنوات العشر الماضية، من غير المرجح أن توافق على مثل هذا التحوُّل. بالإضافة إلى ذلك، فإن تركيا ليست مستعدة لمواجهة داعش والقاعدة في وقت تسعى فيه لاستغلال عدم الاستقرار السياسي في سوريا لصالحها، خاصة في ظل تاريخها في دعم الجماعات الجهادية وتوفير ملاذ آمن للإرهابيين(8).

السيناريو الثاني: الحفاظ على الوجود الأمريكي:

يمثل امتناع ترامب عن الإفصاح عن عدد القوات الأمريكية في سوريا ومهامها تحوُّلًا في سياسته السابقة التي كانت تدعو إلى الانسحاب الكامل. فمن مصلحة إسرائيل بقاء حوالي 2000 جندي أمريكي في سوريا، حيث يساهمون في قطع الجسر البري الإيراني الذي يمر عبر العراق وسوريا إلى حزب الله في لبنان. هذه القوات، رغم عددها المحدود، أثبتت فعاليتها في الحفاظ على الاستقرار في مناطق انتشارها. كما أن للولايات المتحدة مصلحة في منع عودة ظهور داعش، بالإضافة إلى الدعم الذي تحظى به قضية الحكم الذاتي الكردي في الكونغرس، مما يعيق الخطط التركية في المنطقة. وأكد ترامب استمرار دعمه للأكراد خلال زيارة قائد القيادة المركزية الأمريكية (سنتكوم)، مايكل كوريللا، إلى القواعد الأمريكية في سوريا، حيث التقى مسؤولين في قوات سوريا الديمقراطية لمناقشة آفاق الحرب على داعش والجهود المبذولة لمنع ظهور الجماعات الإرهابية. كما أن تأييد شخصيات مثل السيناتور ماركو روبيو، المرشح لمنصب وزير الخارجية، والنائب مايك والتز، مستشار الأمن القومي، للشراكة مع الأكراد، قد يقنع ترامب بالتراجع عن الانسحاب الكامل من سوريا(9).

السيناريو الثالث: تأمين المصالح الأمريكية بدون قوات في سوريا:

يرى الفصيل الانعزالي في إدارة ترامب أن الأكراد السوريين يمثلون تهديدًا لشعار “جعل أمريكا عظيمة مرة أخرى”، ويعتبرونهم مثالًا على المشاركة الأمريكية في الحروب الأبدية التي تشتت الانتباه عن المصالح الأمريكية الأساسية. في المقابل، يرى فصيل آخر أن دعم الأكراد يساهم في الحد من الحروب الأبدية من خلال منع عودة داعش والحد من نفوذ إيران في دعم حزب الله والمليشيات التابعة لها. فالأكراد لا يطلبون من الولايات المتحدة الدفاع عنهم، بل يريدون تمكينهم من الدفاع عن أنفسهم. ونظرًا للدمار الهائل الذي لحق بالبنية التحتية في سوريا خلال حكم الأسد، وتفكك النسيج الاجتماعي، يصعب تصور أن تنتهي سوريا كدولة موحدة. هذا الانقسام يخلق بيئة مناسبة لعودة تنظيم داعش، مما يجعل الانسحاب الأمريكي الكامل من سوريا أمرًا صعبًا؛ لذلك قد يكون الانسحاب التدريجي على مدى ستة أشهر حلًّا مناسبًا؛ خاصة أن الولايات المتحدة لن تتمكن من الابتعاد تمامًا عن الترتيبات الجارية في سوريا، خاصة في ظل سيطرة قوات سوريا الديمقراطية على ثلث مساحة البلاد وحوالي 70% من حقول النفط والغاز. ولتأمين مصالحها دون وجود قوات على الأرض، ستحتاج إدارة ترامب إلى جهود دبلوماسية مكثفة لضمان احتواء داعش وإدارة سجون المقاتلين، بالإضافة إلى الحد من التوغل التركي في المناطق الكردية. كما ستحتاج إلى تعزيز الحوار بين تركيا وحزب العمال الكردستاني لتخفيف التوترات على الحدود السورية التركية. ستختبر إستراتيجية ترامب تجاه الأكراد في سوريا مدى قدرته على الموازنة بين مكافحة الإرهاب والتعامل مع التحالفات المعقدة في المنطقة. فإذا انسحبت الولايات المتحدة مبكرًا، فإنها تخاطر بعودة داعش، مما قد يؤثر على مستقبل ترامب السياسي. وإذا بقيت منخرطة، فإنها تواجه خطر التورط في صراعات جيوسياسية معقدة (10).

الخلاصة:

تتناول السياسة الأمريكية تجاه الأكراد في سوريا في ظل حكم الرئيس دونالد ترامب العديد من التحولات والتحديات التي أثرت على الاستقرار الإقليمي والعلاقات مع القوى المحلية والدولية. العلاقات الأمريكية الكردية بدأت في سياق الحرب ضد داعش، حيث دعمت الولايات المتحدة الأكراد السوريين في مواجهة التنظيم الإرهابي. ومع ذلك، اختلفت سياسة واشنطن بشكل كبير تحت إدارة ترامب، التي تخلّت عن التزامها الطويل الأمد مع الأكراد في سوريا في عام 2019، بعدما أمر ترامب بسحب القوات الأمريكية من الشمال السوري. هذا التحوُّل في السياسة الأمريكية كان نتيجة لمجموعة من العوامل الجيوسياسية، منها المخاوف من التصعيد مع تركيا، الحليف الإستراتيجي في الناتو، التي ترى في الأكراد تهديدًا لأمنها القومي بسبب ارتباطهم بحزب العمال الكردستاني.

كما أن السياسة الأمريكية تجاه الأكراد لم تكن إستراتيجية ثابتة، بل شراكة مرحلية تتماشى مع المصالح الأمنية والعسكرية الأمريكية في مواجهة داعش. أما على الصعيد التاريخي، فإن الأكراد لطالما كانوا يسعون للحصول على حكم ذاتي أو دولة مستقلة، وهي طموحات تتعارض مع مصالح دول المنطقة الكبرى، مثل تركيا والعراق وسوريا وإيران، التي تعارض أي محاولات من قبل الأكراد لتأسيس دولة خاصة بهم. مع بداية فترة ترامب، كان هناك تذبذب في القرارات، من دعم محدود للأكراد في مواجهة داعش إلى انسحاب مفاجئ، مما أثار انتقادات داخلية وخارجية. في ظل إدارة ترامب الثانية، قد تتغير سياسة واشنطن تجاه الأكراد بناءً على تطورات جديدة في سوريا وموازين القوى الدولية، وخاصة فيما يتعلق بالنفوذ الإيراني والروسي في المنطقة.

ختامًا: السياسة الأمريكية تجاه الأكراد تبقى موضوعًا معقدًا يتأثر بالعديد من العوامل، بما في ذلك التوازنات الإقليمية، الضغوط السياسية الداخلية، والاعتبارات الأمنية العالمية، مما يجعل الموقف الأمريكي تجاه الأكراد في سوريا في حالة تحوُّل مستمر.

المصادر:

1- بي بي سي. 

2- المرصد. 

3- سكاي نيوز. 

4- المرصد المصري. 

5- العربية. 

6- بغداد اليوم. 

7- الخنادق. 

8- مركز الأهرام للدراسات. 

9- نون بوست. 

10- فكرة.